وقفت على كرسي وصحت بأعلى صوتي: واصباحاه واصباحاه.
لكن أحداً من أفراد أسرتي لم يلبِ الاستغاثة، كل واحد منهم احتجر في غرفة، وصمَّ أذنيه بصمامات، واغترب عن الدنيا اغتراب المتصوفة من غير عبادة ولا هدى.. كنت أريد أن أقول لهم إني أخشى أن أكون مطعوناً بكورونا بطعنة في الظهر.
منذ يومين وأنا أسعل سعال اللص المتسلل إلى قصر "باكينغهام"، فأكتم شأني.. بيني وبين السعال صداقة قديمة وخبز وملح، هي صداقة موسمية، هو يزورني في رحلة الشتاء ورحلة الصيف، في كل سنة مرتين، وليس مرة واحدة كزيارات أهل فيروز.. ارتبتُ وخشيت أني أُصبتُ بالوباء الجائح الجامح، طلبت من زوجتي أن تقيس حرارتي، فوضعت ظهر يدها على جبيني، وظهر الأرض أطيب لي من بطنها، فإذا طاب بطن الأرض، فعلى الدنيا السلام.
وكان الأولى بها أن تضع يدها على قلبي، قالت: عافية، هي حرارة الخوف، علاجك عندي، اخلع هذا السيجار من فمك وستبرأ.
وليعلم القارئ أنا لا أدخن، أو أني أدخن تدخيناً بارداً من غير نار، مثل أبطال أفلام الكاوبوي.. البطل في أفلام الويسترن، وحيد، كأنه مصاب بكورونا تضخم الذات، يضع سيجاراً غليظاً مثل ماسورة مسدس في فمه، ويتكلم بنفس الطريقة مع أعدائه وأصحابه.. عفواً ليس للكاوبوي أصحاب، هو وحيد، ولا يخدم في الجيش.
سيجار واحد يكفيني شهراً كاملاً، أنا كاوبوي لا يفارق ظهر قلمه، فالسيجار البني الغليظ، يتآكل كل يوم بعوامل الحت والتعرية والمضغ الناعم، وأظن أنَّ السيجار الأخير كان فاسداً وفيه مواد كيماوية تساعد على الاشتعال.. الغرض من التدخين الشائع بين نصف سكان الأرض هو رغبة الإنسان في أن يتحول إلى تنين ينفث الدخان من فمه، وأن يتذكر سنوات الرضاعة، حسب مدرسة فرويد في التحليل النفسي. لقد صار بيني وبين السيجار صحبة ودم ونيكوتين، فنحن أخوان في الرضاعة!
أنا رجل القمامة في البيت، أنا عامل النظافة، نزلت لأرمي القمامة، والقمامة هي بقايا جثث الفاكهة وأزياء الأطعمة المعدنية، وجدت جاري "بالدور" يعمل في تعشيب الحديقة، فالأعشاب طالت، والربيع حلَّ في ديارنا مع
كورونا، كان يوماً مشرقاً، خرق فيه الناس حظر التجول الجزئي، والشرطة تجوب المكان، وتراقب، وإن رأت اثنين حققت معهما وعذبتها بسياط السين والجيم.. يجب أن يكون المرء وحيداً مثل أفلام الكاوبوي، أو أن يكون بعيداً عن صاحبه مسافة مترين، هذا كان يمكن أن يكون مشهداً في فلم كوميدي، ونحن نعيشه الآن!
قال لي بالدور كلاماً بالألمانية، فيه كلمة "كلّاب"، وكلّاب تعني "عالق" في الألمانية، وكان يمازحني ويتّهمني بأني علقت في البيت، لكنها بالعربية شتيمة، وقد فهمت الشتيمة، وقلت له أنا قادم للمساعدة، وفعلاً لبست عدّة الحرب والحلقة، ونزلت وعملت معه ساعتين، وكان قد تعب، وجهدتُ في كتم سعالي، حتى لا أذعره، أثرتُ غباراً، فالأرض جفَّت، وخرجتْ الناس بثيابها الصيفية، والغبار يسبب السعال والعطاس، لكني كتمت سعالي كأني لص في قصر "باكينغهام".
لو شكّ بالدور في أمري وصحتي وإصابتي بكورونا، لاتصل فوراً بالشرطة، خوفاً من تهمة التستر على مجرم.. الحكومة الألمانية تدرس الآن قانونا يمنح الدولة الحق في التجسس على هواتف الناس، حتى إذا أصيب أحد ما بكورونا وصل البوليس إلى أهله وأصحابه وسلّم المصابين تسليماً للحجر الصحي.
لكن لا زلنا في مرحلة اللون البرتقالي، وفي البرتقال فيتامين سي.
ارتبتُ في الأمر، وراجعت التقارير الصحفية التي تذكر أهم
الأعراض، حبستُ نفساً عميقاً، فوجدتني أطلق سراح النفَس فوراً من زنزانة صدري، خوفاً من السعال.
آخر تقرير يقول: إنَّ
سجون الأسد تضم أكثر 300 ألف معتقل، تسعة أعشارهم ليس لهم جرم سوى أنهم من أهل السنًّة والجماعة، من الحاضنة الشعبية، وهي أسوأ سجون في العالم. رأيت كثيراً من أفلام السجون والهروب منها، بما فيها الباستيل، لكنَّ السجون السورية من الجحيم..
قرأتُ علامات المرض، تقول التقارير: إنَّ المريض تتعطل عنده حاسة الشم. جرّبتُ حاسة الشمِّ، فوجدت أنفي قادراً على الشمِّ، وحاسَّة الذوق، فوجدت الشهية مفتوحة، جربتها، فالتهمت الطعام كله مع أني في حميّة جزئية اسمها الكيتو. عطست، عندما يعطس المرء تقول له يرحمك الله، نحن الآن نفرّ منه فرارنا من الأسد، وفرارنا من السيسي، فصار العطاس، وهو رحمة، لعنةً والعياذ بالله، وتلك عبرة لأولي الألباب.
عندي ربع كيلو من لبان الذكر، وهو دواء للسعال، لكن لا يوصى منه سوى بمثقال نواة من تمر يومياً، فأكلت نصف الكمية، الدواء يتحول إلى سمِّ إذا أكثرنا منه، حتى العسل يتسبب بارتفاع الحرارة إن أكثرنا منه، قد يسبب حريقاً داخل الجسم.. الشيء إذا زاد عن حده انقلب ضده.. الدكتاتورية بلغت الطغيان، فكان ما كان.
مضى يومان، السعال خفّ، لكن عندي سيلان أنف، وحكة عين، فكرت في الاستغاثة بصديق، هو طبيب سوري يشرف على مركز الحجر الصحي في مدينة غروس غيراو، خفتُ أن يخونني ويسلّمني للسلطات، وأموت تحت التعذيب، الحجر سيكون تعذيباً. أمس قال وزير الداخلية الألماني: العاصفة قادمة والمصابون يجدون عناية. بعد أيّام سيمكثون في بيوتهم، سيكونون بمئات الآلاف، الوباء قادم، وسيغّير وجه الأرض. أريد أن أعيش بضع سنوات أخرى، وأن أشهد وجه البشرية الجديد، بعد تحّوُّل نعج (اختصار النظام العالمي الجديد) إلى أرنب وقد خلع القناع عن وجهه.
يقول الشاعر زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُواً صَدِيقَهُ... ومنْ لَم يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لَم يُكَرَّمِ
وقد اغتربنا نحن ضيوف الأرض المطحية الضحية، اغتراباً لم يسبق له مثيل، حتى صرنا نحسب كل صديق عدواً، وهو اغتراب أنكى وأشدُّ من اغتراب زهير بن أبي سلمى الذي كان يحسب العدو صديقا.