لقد كانت صرخات وزير الخارجية الإيطالي كافية لتكشف الوجه الحقيقي للغرب المتحضر الذي اختصر مجامع الحضارة في سلوكه، وبشّر العالم بأن مهد تقدمه وحضارته ومنطلقه في أوروبا.
ليس وحده الذي فزع من الأنانية الغربية والخذلان الذي تعيشه الدول الأكثر تضررا من جائحة
كورونا، فمرارة الخذلان التي عبر عنها وزير الخارجية لويجي دي مايو بوجوب إعادة النظر في علاقة دول الاتحاد الأوروبي ببعضها، بعدما استنفرت إيطاليا دول الشراكة الأوربية للمساعدة ولم يفزع لصرختها جار ولا شريك، وأتاها المدد عبر المحيطات من كوبا والصين وغيرهما، بينما لم يحرك الجيران ساكنا، هذه الصرخة كررها الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا الذي قال: "إن أوروبا تحتاج مبادرات جديدة ويجب أن تسقط المقاربات القديمة لأنها لم تنفع مع المستجدات".
هذا الغرب الذي يعيش مكاشفة حقيقية ليس فقط على مستوى العلاقات البينية، ولكن أيضا على مستوى العلاقات الإنسانية والمجتمعية، وإن كانت هناك (للأمانة) بعض المبادرات الإنسانية والمجتمعية الضنينة، التي تشهدها دول أوروبا لمساعدة كبار السن والمرضى، لكن الفكرة العامة التي تسود الغرب، هي المقارنة بين المرضى، فالأقوى والأصغر هو الأولى بالعلاج والرعاية، وما دون ذلك يترك لمصيره. والحجة في ذلك شح الإمكانات، أوروبا العظيمة تشكو ضعف الإمكانات! هذا ما يمكن تصوره مع ازدياد أعداد المصابين وعدم قدرة المستشفيات على استيعاب الأعداد الكبيرة للمصابين، لكن عندما يكون هذا هو نمط التعامل، فإننا أمام جريمة إنسانية بامتياز أصّلت لها نظرية الرجل الأبيض القوي.
وفي ظل الحديث عن الرجل الأبيض القوي الخارق، يتندر العامة في بلادنا على قادة العالم الذين أثبتوا خواءهم وضعفهم وعدم قدرتهم على مجابهة الكوارث الطبيعية، رغم العلوم العظيمة التي يدرسونها. تقول الطرفة إن طائرة تحلق مع خمسة ركاب على متنها (ترامب، وبوريس جونسون، وبابا الفاتيكان، وأنجيلا ميركل، وتلميذ مدرسة في العاشرة).. الطائرة على وشك التحطم وهناك 4 مظلات فقط!
ترامب قال أنا سآخذ واحدة، أنا أذكى رجل في الولايات المتحدة الأمريكية وأقوى رجل في العالم، والعالم بحاجة لي لحل مشاكله، فأخذ واحدة وقفز، بوريس جونسون قال: أنا بحاجة لترتيب بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي فأخذ واحدة وقفز، البابا قال: أحتاج إلى واحدة لأن العالم يحتاج إلى دعواتي وبركاتي فأخذ واحدة وقفز، أما ميركل فاحتضنت الصغير وقالت خذ أنت المظلة فأنت صغير ولن أضحي بلقبي ماما ميركل في هذه الظروف، فرد الطفل: بل سنقفز معا؛ فهناك مظلتان؛ لأن أذكى رجل بالولايات المتحدة وأقوى رجل في العالم أخذ حقيبتي المدرسية وقفز.
في بلادنا وفي ظل تهالك المنظومات الطبية لأسباب يعرفها الكل، من فساد سياسي واقتصادي انعكس بالطبيعة على المنظومات الصحية في بلادنا، هبت الشعوب لإدراك ما لا يمكن أن تقوم به الحكومات بتاريخها المرضي في تداركه، لقد هبت الشعوب بحس ووطني ودافع قيمي لتقديم ما يمكنهم على قدر إمكانياتهم البسيطة. فالحكومات لم تترك لهم من فائض العيش الكثير لمساعدة بعضهم بعض، مع ذلك لم تتأخر تلك الشعوب عن القيام بواجبها الإنساني تجاه أخوانهم في الوطن، فالمبادرات الشعبية لا تتوقف منذ انتشار وباء كورونا القاتل، ولا تزال المبادرات تنطلق من مراكش إلى أربيل. ففي الأردن أطلق الشباب مبادرة سموها "مبادرة وطن" يعمل عليها المتطوعون من شباب الأردن لتقديم المساعدة الطبية للشعب الأردني بالمجان، في ظل تعبئة المستشفيات لمواجهة فيروس كورونا. ويتنقل الأطباء من منازلهم إلى منازل المرضى متحملين تكاليف التنقل ليقدموا خدماتهم من غير أجر، إلا القبول المجتمعي ورضا السماء.
وفي السودان تجربة شبيهة في تفاصيلها تزيدها حماسة الثورة التي غيرت كثيرا في هذا الشعب الكريم، سموها جسر العطاء، وهم أهل العطاء لا ريب.. وفي تونس يبادر العاملون في إحدى شركات المستلزمات الطبية بالدخول في الحجر الطوعي داخل مصنعهم لتقديم ما يلزم البلاد من مستلزمات طبية، في هذا الوقت الذي يعاني الغرب من نقصها.
والتجارب في دولنا العربية كثيرة، ولكني سأختم بمبادرة رائعة خرجت من قرية صغيرة بإحدى قرى الصعيد النائية، وكانت من رجل بسيط نوى أن يعتمر، ولما أغلقت المملكة السعودية الحرم ومنعت العمرة، اشترى بتكاليف العمرة أغذية ووزعها على المحتاجين في قريته.. إنها أمة الفزعة إنها أمة الإنسانية، إنها أمة القيم والمبادئ والخير والعطاء.
يقول المحللون إن العالم بعد كورونا لن يكون كما كان قبله وينظرون بأن الغرب سينهار بعد أن أثبت فشل منظومته القيمية والأيديولوجية، وأصبحت المادية والرأسمالية وبالا على العالم؛ لم تخلف سوى الأنانية والتمحور حول الذات، وأن العالم سيتجه شرقا نحو الصين التي استطاعت أن تخرج من أزمتها إلى حد كبير والتي ستكون البديل لقيادة العالم، لكني أرى أن أمة لديها هذه الذخيرة المعرفية والحضارية وتمتلك ما تمتلك من القيم الإنسانية، تستطيع أن تضمد جراح 180 عاما من حكم المادية الغربية التي ذهبت بالبشرية إلى ما تعيشه الآن، لو أتيحت لها الفرصة، وأظن أن الفرصة الآن سانحة فانهضي يا أمة الخير.