قد يصعب الحديث عن غير الوباء في زمن الوباء، لكن الأوبئة والأمراض والأسقام والجراثيم والفيروسات كلها لا تتشابه ولا يكون فعلها واحدا، لسبب بسيط وهو أن الأجسام يختلف بعضها عن بعض ويتباين.
الجسد البشري هو غير الجسد الاجتماعي وهو غير الجسد الاقتصادي أو الجسد الثقافي أو الجسد السياسي التي تتميز باختلاف بنيتها وخصائصها ومكوناتها الداخلية والخارجية. ففي الوقت الذي ينتشر فيه الوباء عبر القارات مخلفا آلاف المصابين وآلاف الضحايا وفي الوقت الذي تتجند فيه كل القوى داخل الدولة الواحدة وحتى بين الدول تظهر في دول أخرى علامات فارقة على حجم الوباء الاجتماعي والسياسي الذي أصابها.
في تونس مثلا وفي مرحلة دقيقة من مراحل تطور المرض تنشط شبكات علنية وسرية هدفها الاستفادة من الأزمة وتسجيل نقاط ضد خصم سياسي أو تكوين ثروة طائلة في ظل الأزمة. هذه الظاهرة المريبة تؤكد أن للأزمات وجهها المشرق الذي يصعّد إلى السطح أخبث الأمراض في الجسد الواحد وهي الأزمات التي تستدعي إلى السطح أكثر الأمراض عمقا واختباء في خلايا الجسم. اليوم ينشط محيط الرئيس في مهاجمة البرلمان رغبة منه في العودة إلى الحكم الرئاسي والسيطرة على مقاليد الحكم في الوقت الذي يرزح فيه الشعب تحت خناجر الفاسدين والمضاربين والمحتكرين والمهربين وأغنياء الحرب الجدد.
الثورة والفيروس
قبل وصول الوباء وانتشاره عالميا كان المسار في تونس قد خرج للتو من أزمة تشكيل الحكومة رغم أن الصراع كان على أشده بين الفرقاء السياسيين، وقد تسبب في حالة حادة من الانحسار السياسي مما أطال في عمر الأزمة. سقطت الحكومة الأولى أو أسقطت لأنها لم تكن تمثل أحلام وتطلعات شبكات المصالح واللوبيات والعصابات المتحكمة في الدولة والاقتصاد. ثم نجحت الكتل السياسية في الوصول لتكوين حكومة عرجاء هي أقرب إلى حكومة التوافقات الحزبية والمصالح المشتركة بين الكتل النيابية منها إلى حكومة ثورة أو حكومة كفاءات وطنية.
المسار التونسي اليوم هو مسار شديد الحساسية، لأن إمكانيات الانزلاق واردة في كل حين بسبب حجم التهديدات الداخلية والخارجية التي يواجهها. إن ما حققه الشعب التونسي من مكاسب جليلة في مواجهة الإرهاب وفي إفشال المشاريع الانقلابية وفي تفادي العنف والقتل والفوضى يمثل أهم المكاسب التي منعت الانزلاق في الفوضى وأنقذت المسار.
إن الخلاصة الأساسية في التجربة التونسية إنما تتمثل في قدرة الطبقات الشعبية القاعدية على امتصاص الأزمات التي تخلقها النخب السياسية والحزبية والفكرية بهدف الانقلاب على الثورة وإعادة الاستبداد الذي كانت تقتات منه. إن جوهر الصراع اليوم ليس بين الثورة والنظام القديم لأن النظام القديم صار يتحرك بوجوه مكشوفة علنا، بل إن جوهر الصراع يتمثل في المواجهة بين القواعد الشعبية وبين المشاريع الانقلابية التي تقودها مكونات محسوبة زورا على الشعب وعلى الثورة وعلى رأسها مثلا المركزية النقابية أو الاتحاد العام التونسي للشغل.
بناء على ما تقدم يكون الوباء في تونس أزمة إضافية تضاف إلى مجموع الأزمات التي تعاني منها البلاد سواء على مستوى الاقتصاد أو على مستوى المجتمع. وهي الأزمة القادرة على تعرية المكونات الانقلابية التي عرتها الكارثة الصحية وقد كشفت انهيار البنية الطبية وعجز الدولة عن توفر أبسط المواد الأساسية لشعبها من دواء وغذاء.
فيروس الثورة
في أوج الموجة الثورية كان الصراع مع النظام القديم مفتوحا بشكل مباشر خاصة في السنوات التي أعقبت الثورة ولا يزال جزء كبير من هذا الصراع قائما رغم التحولات الكبيرة التي عرفها السياق. أي أن المعركة مع الوجوه الأساسية للنظام القديم قد تراجعت في القيمة والأهمية رغم كونها لا تزال قائمة وفتحت المجال لمواجهات أخرى أكثر شراسة وأهمية.
اليوم تخرج للعلن مكونات جديدة في المشهد التونسي تتصدر المشروع الانقلابي بشكل غير معلن وهي مختلفة عن العناصر التي تكوّن الواجهة في النظام القديم رغم أنها كانت تعدّ جزءا منها.
من بين هذه المكونات أحزاب وكتل ومنظومات فكرية وثقافية واجتماعية كانت بالأمس القريب تمارس حرفة المعارضة وتبيع كل أنواع الشعارات والمسكنات والمهدئات الشعبية. كانت شعاراتها القومية واليسارية والليبرالية وحتى الإسلامية من وحدة وتقدمية وحرية وعدالة اجتماعية ومحاربة الاستبداد والطاغوت قوتا يوميا للملايين من شعب تونس. كانت شعارات الدفاع عن كرامة الإنسان وعن الفقراء والطبقة الكادحة عنوان مرحلة أساسية من مراحل تطوّر الوعي السياسي في تونس.
الاتحاد العام التونسي للشغل أو المركزية النقابية هو مثلا أحد أخطر المكونات تهديدا للمسار الانتقالي.
لكن الثورة كانت مفاجأة المفاجآت، إذ أطاح الشعب الفقير متجاوزا شعارات نخبه الجوفاء بالنظام وبواجهته الأساسية متمثلة في الحلقة الأصغر المحيطة به. لكن أخطر مكونات مرحلة الاستبداد بقيت ثابتة ولم تشملها مكانس الثورة بل الأخطر من ذلك أنها نجحت في التسلل إلى صفوف الثورة والتحدث باسمها.
تواترت أحداث كثيرة خلال السنوات العشر الماضية يصعب حصرها، وهي الأحداث التي أدت إلى تشكل المشهد الجديد وحولت المواجهة من مواجهة مع النظام القديم إلى مواجهة مع حلفائه وأعوانه داخل الخط الثوري.
أغرب الفصول في الساحة التونسية هو أن مكونات المشهد السياسي والحزبي لا علاقة لها بإنجاز الثورة نفسها بما في ذلك الإخوان المسلمون، بل إن كثيرا من هذه المكونات قد انتقد الثورة قبل يوم سقوط بن علي. لقد تجاوز الوعي الشعبي وعي النخب السياسية وهي النقلة الحاسمة التي أدت إلى سقوط النظام عبر شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
الاتحاد العام التونسي للشغل أو المركزية النقابية هو مثلا أحد أخطر المكونات تهديدا للمسار الانتقالي. الاتحاد كما يسميه أهل تونس أو تحديدا قيادات الاتحاد هي تجمع لخليط من اليساريين والقوميين والليبراليين التي كانت تتغطى بالعمل الاجتماعي وبالدفاع عن حقوق العمال في حين أنها كانت خلية للنظام داخل المجتمع والدولة. تمكن نظام بورقيبة من السيطرة على المؤسسة النقابية وكبح جماحها لكنه عجز عن تدجينها وهو الأمر الذي نجح فيه بن علي بأن سيطر بشكل كلي على العمل النقابي وزرع فيه كل الخلايا التي يحتاجها.
لم يكن هجوم كتائب الاتحاد على نائب مجلس الشعب وتجرديه من ملابسه خلال الأيام الفارطة حادثا عارضا أو هو موجه ضد إئتلاف الكرامة، بل هو حدث موجه ضد كل من تسوّل له نفسه المسّ من سلطة هذا الغول المتحكم في رقاب الدولة والمجتمع.
ليس غريبا أن يكون الأمين العام للاتحاد واقفا يمدح بن علي في الوقت الذي كان فيه رصاص القناصة يخترق صدور التونسيين. وليس غريبا أن ينفّذ الاتحاد آلاف الإضرابات سنويا لتدمير الاقتصاد وضرب عجلة الإنتاج وتفخيخ المسار الانتقالي لمصلحة المجاميع المسيطرة على الاقتصاد والدولة والتي تعمل بأجندات خارجية معلومة للقاصي والداني في تونس. هذه الخدمات الدولية هي التي منحت الاتحاد جائزة نوبل للسلام اعترافا بخدماته الجليلة.
لم يكن هجوم كتائب الاتحاد على نائب مجلس الشعب وتجريده من ملابسه خلال الأيام الفارطة حادثا عارضا أو أنه موجه ضد ائتلاف الكرامة، بل هو حدث موجه ضد كل من تسوّل له نفسه المسّ من سلطة هذا الغول المتحكم في رقاب الدولة والمجتمع.
اليوم ومع انتشار الوباء تكتشف البلاد تمرد القوى النقابية في المستشفيات وفي أماكن كثيرة مستفيدة من حاجة البلاد إلى التكافل وإلى الدواء والغذاء. اليوم أيضا يحاول رئيس الجمهورية السيطرة على السلطة السياسية بالبلاد وتهميش دور البرلمان بإيعاز من مستشاريه من أجل تنفيذ انقلاب ناعم. اليوم كذلك تتوحش عصابات المستشفيات وتجار الأدوية ومجاميع التهريب والاحتكار والبلاد في أمس الحاجة إلى الدواء والغذاء.
إن عجز رئاسة الجمهورية التي تحول رئيسها إلى ظاهرة صوتية مزعجة وهو يحاول ضرب مجلس نواب الشعب تناصره في ذلك أذرع الدولة العميقة هو عنوان آخر لأزمة تونس. كما أنّ سعي الحكومة إلى الانفراد بالقرار السياسي ومحاولة شيطنة البرلمان ونزع صلاحياته كلها تدخل في إطار عملية واحدة تسعى إلى الاستفادة من الأزمة ومن التوقيت لنسف أعظم إنجازات الثورة التونسية وهو مجلس نواب الشعب.
ليست الأزمة شرا كلها بل إنها فرصة نادرة لتعرية المجتمع والدولة وفرز القوى السياسية الحية من القوى الناهبة لثروات الشعب وتلك المتاجرة به عبر شعاراتها البراقة وهو الأمر الذي سيسمح بمواجهتها وتثبيت المسار الانتقالي رغم كل الصعوبات والأزمات والعراقيل. إن انكشاف المشهد السياسي التونسي اليوم هو أعظم المراحل الانتقالية في تاريخ المسار الثوري، حيث لا تزال الغربلة والفرز مستمرين حتى ينقي المشهد نفسه بنفسه من كل الأدران والطفيليات العالقة.
جائحة كورونا وحرب طرابلس.. قليل من الإنسانية والمسؤولية
ليبيا على أعتاب جولة ثانية من التفاوض