يذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية أصولا عدة لاشتقاق كلمة قريش، فيقول: وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق وذلك في زمن قصي بن كلاب، فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم.
وقد قال حذافة بن غانم في هذا:
أبوكم قصي كان يُدعى مُجمعا به جمع الله القبائل من فهر
أما ابن هشام فينقل في السيرة النبوية أن أصل تسمية قريش يعود إلى التقرش وهو التكسب والتجارة.
وقال ابن هشام إن النضر هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي ومن لم يكن من ولده فهو ليس بقرشي.
وينقل ابن كثير عن الشيخ أبي عمر والزبير بن بكار ومصعب الزبيري وابن كيسان قولهم إنه ليس أحد ممن ينتسب إلى قريش إلا وهو يرجع في نسبه إلى فهر بن مالك.
وكانت قريش تضم: بني الحارث، وبني محارب، وبني عامر، وبني عدي بن كعب، وبني جمح، وبني سهم، وبني تيم، وبني مخزوم، وبني زهرة، وبني أسد، وبني عبد الدار، وبني عبد مناف. وكلهم يرجعون إلى فهر (قريش).
في هذه الأثناء، كان بنو حارثة بن عمرو الملقب بخزاعة فريقا من الأزد رحلوا من اليمن بعد انهيار سد مأرب، فأقاموا في مكة بعد أن انتزعوا السيادة عليها من جدهم قحطان.
ووليت البيت غُبشان من خزاعة دون بني بكر بن عبد مناة، حتى كان آخرهم حُليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي، وكانت قريش آنذاك جماعات متفرقة.
لكن تاريخ مكة السياسي بدأ مع قصي بن كلاب الجد الرابع للنبي وقد عاش في منتصف القرن الخامس، وهو قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر (قريش).
يذكر ابن كثير أن قصي قدم مكة وهو شاب، فتزوج حبى ابنة رئيس خزاعة حليل بن حبشية، فأما خزاعة فزعم أن حليلا أوصى إلى قصي بولاية البيت لما رأى من كثرة نسله من ابنته، وقال أنت أحق بذلك مني.
أما ابن إسحاق، فقال: لم نسمع ذلك إلا منهم وأما غيرهم فإنهم يزعمون أنه استغاث بأخوته من أمه، وكان رئيسهم رزاح بن ربيعة وأخوته وبني كنانة وقضاعة (أخوال قصي بن كلاب) ومن حول مكة من قريش فأجلاهم عن البيت واستقل هو بولاية البيت.
وقال رزاح في إجابته قصيا:
ولما أتى من قصي رسول فقال الرسول أجيبوا الخليلا
نهضنا إليه نقود الجياد ونطرح عنا الملول الثقيلا
نسير بها الليل حتى الصباح ونكمي النهار لئلا نزولا
فلما انتهينا إلى مكة أبحنا الرجال قبيلا قبيلا
قتلنا خزاعة في دارها وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا
وكان قصي في قومه سيدا رئيسا مطاعا معظما، فجمع قريش من متفرقات مواضعهم من جزيرة العرب واستعان بمن أطاعه في حربه على خزاعة وإجلائهم عن البيت، فكان بينهم قتال كثير، فتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فحكم بأن قصيا أولى بالبيت من خزاعة.
وكان لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجاجة البيت وسدانته واللواء، وبنى دارا لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة.
ولد قصي بن كلاب أربعة أولاد: عبدمناف، عبدالدار، عبدالعزى، عبدقصي.
قصي بن كلاب
عبد مناف عبدالدار عبدالعزى عبدقصي
ولما كبر قصي أمر هذه الوظائف (الرفادة، السقاية، الحجابة، اللواء، الندوة) إلى ابنه الأكبر عبد الدار، وإنما خصصه بها كما يقول ابن كثير، لأن بقية أخوته كانوا قد شرفوا زمن أبيهم وبلغوا في وقتهم شرفا كبيرا، فأحب قصي أن يلحق ولده الأكبر عبدالدار في السؤدد فخصصه بذلك.
وقد أورث عبدالدار هذه الوظائف لأولاده من بعده، فقام بنو عبدمناف ـ أولاد عمومتهم ـ ينافسونهم على السيادة.
ولعبدمناف بن قصي واسمه المغيرة بن قصي، أربعة أولاد: هاشم، عبدشمس، المطلب، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة، أما الولد الرابع، فكان نوفل وأمه واقدة بنت عمرو المازنية.
عبد مناف بن قصي
هاشم عبدشمس المطلب نوفل
ويذكر ابن كثير أن الصراع اشتد بين أولاد عبدالدار وأولاد عبدمناف، وانقسمت القبائل القرشية بينهم: فوقف بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث مع بني عبدمناف، فيما وقف بنو مخزوم وبنو جمح وبنو عدي وبنو سهل، مع بني عبدالدار.
سمي الفريق الأول (عبدمناف) بـ المطيبين لأنهم غمسوا أيديهم في جفنة من الطيب عند عقد الحلف بينهم، بينما سمي الفريق الثاني (عبدالدار) بـ لعقة الدم لأنهم غمسوا أيديهم بالدم، ويطلق عليهم اسم الأحلاف.
أما بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر فقد اعتزلوا الفريقين.
انتهى الصراع بين بني عبدالدار وبين بني عبدمناف بالصلح، وتقاسم الوظائف، فكانت السقاية (سقاية زمزم) والرفادة (طعام تجمعه قريش كل عام لأهل الموسم) لبني عبدمناف والحجابة (مفاتيح البيت) واللواء (يعني في الحرب فلا يحمله إلا قوم مخصصون) والندوة (دار للاجتماع والمشورة) لبني عبدالدار.
ثم حدث بعد ذلك نزاع بين أولاد بني عبدمناف، أي بين بني هاشم من جهة وبني أمية من جهة ثانية.
ولهاشم بن عبدمناف أربعة أولاد: عبدالمطلب، أسد، أبا صيفي، نضلة.
هاشم
عبدالمطلب أسد أبا صيفي نضلة
وينقل الطبري قصة الخلاف، فيقول: عرض نوفل بن عبدمناف إلى أرض في ملك ابن أخيه عبدالمطلب بن هاشم، فاستغاث عبدالمطلب بقومه، لكنهم لم يساعدوه، فاضطر إلى الكتابة لأخواله بني النجار في المدينة، فأغاثوه وأعادوا له حقه من عمه نوفل، وما كان من الأخير إلا أن تحالف مع أبناء عمه من بني عبدشمس ضد بني هاشم، بينما دعا عبدالمطلب بن هاشم رجالا من خزاعة للوقوف معه.
وكان بين هاشم وأخيه عبدشمس منافسة، قبل أن تتحول المنافسة إلى صراع حاد، قطباه أمية بن عبد شمس من جهة وعمه هاشم من جهة ثانية الذي كانت إليه الرفادة والسقاية.
وبعد اشتداد الصراع بينهما احتكما إلى كاهن خزاعة فحكم بينهما بقوله:
والقمر البـاهر، والكوكب الزاهر، والغمام
المـاطر، ومـا بالجو من طائر، وما اهتدى
بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقـد سبق
هـاشم أمية إلـى المآثر، أول منه وآخــر
بعد ذلك، تنافر حرب ابن أمية مع عبدالمطلب بن هاشم إلى نفيل بن عبد العزى ـ جد عمر بن الخطاب ـ فحكم لعبدالمطلب.
ومن الأمثلة الأخرى على هذا التنافس الحاد، أن تاجرا يمنيا جاء مكة وباع سلعة إلى العاصي بن وائل زعيم بني سهم، فأبطأ الاخير في دفع ثمن السلعة، فعرض التاجر اليمني شكواه على قريش، فوقف إلى جانبه بنو هاشم وبنو المطلب وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث، ثم عقدوا حلفا بينهم سمي حلف الفضول، ينص على أن لا يجدوا بمكة مظلوما إلا وقفوا معه.
وينقل ابن هشام عن ابن إسحاق أنه بعد وفاة هاشم في غزة من أرض الشام أثناء تجارته، انتقلت السقاية والرفادة إلى المطلب بن عبدمناف، ثم إلى ابن أخيه عبدالمطلب.
عبدالمطلب
لعبدالمطلب بن هاشم عشرة أولاد: العباس، حمزة، عبدلله، عبدمناف المعروف بأبي طالب، عمران، الزبير، الحارث، جحل، ضرار، عبدالعزى المعروف بأبي لهب.
ويروي ابن إسحاق أن عبدالمطلب بن هاشم قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم، لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما توافى بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء بالله، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع، قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، فرضب القداح، فأصابت عبدلله والد النبي، فأخذه عبدالمطلب لينحره، لكن قريشا منعته.
وقالت له قريش اذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة، فسلها، فانطلقوا حتى قدموا المدينة بخيبر، فسألوها، فأجابت، ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، ففعلوا، فخرج القدح على عبدلله، فزادوا عشرا من الإبل، فبلغت الإبل عشرين، وكرروا ذلك مرات عدة وفي كل مرة كان القدح يصيب عبدلله، حتى بلغت الإبل مئة.
فقالت قريش، قد انتهى رضى ربك يا عبدالمطلب، فرفض عبدالمطلب حتى يضرب القداح عليها ثلاث مرات، ففعل، وفي كل مرة من هذه الثلاث كانت القداح تصيب الإبل، فنحرت.
وينقل ابن هشام عن ابن إسحاق، أن عبدالمطلب أخذ بيد عبدلله فمرا على امرأة من بني أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهي أخت ورقة بن نوفل، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبدلله؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل التي نُحرت عنك وقع علي الآن، قال: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه.
ثم انصرف عبدالمطلب آخذا بيد عبدلله حتى أتى به وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب، فحملت برسول الله.