يتحدث الجميع عن الاجتياح الواسع لوباء
كورونا، والمعدلات المتصاعدة من المصابين والموتى، كما يتمسك الكثيرون بأي بصيص أمل يظهر في الأفق عن التطور الانحداري للجائحة في بعض بلدان المعمور. وبين حد الخوف وأمل النجاح في مقاومة الوباء، يكون مستحبا ومستلزما التمسك بالتفاؤل، والعمل على شحذ همم الناس من أجل المقاومة حتى النصر. ونعتقد جازمين أن بقاء المعنويات مرتفعة، والإرادات جاهزة للتدافع من أجل دحض الوباء، من الأسلحة بالغة الأهمية لتحقيق الفوز.
تناسلت الأسئلة خلال الشهر الماضي ومستهل نيسان/ أبريل الحالي بخصوص الظواهر التي خلقها انتشار الوباء وتطوره في 182 بلدا، كما تكاثرت التحليلات، ولو في خطواتها الأولى، عن القضايا التي أثارتها استراتيجيات مواجهة الوباء في بلاد العالم، لا سيما المتضررة منها أكثر. فالوباء ما انفك يسائل علماء السياسة، ونظراءهم الاجتماعيين، ورجال القانون، والديمغرافيين، والاقتصاديين، والاستراتيجيين
وعلماء المستقبل، كل من زاويته وفي مجال تخصصه. بيد أن الوضع، وفي ضوء ما وصل إليه تطور أحواله، لا يسمح بما يكفي لتقديم تحليل عميق ومُقنع لما سيكون عليه المستقبل، حيث هناك تفاعل مضطر للأحداث والوقائع، وسباق محموم للفاعلين الدوليين من أجل الإمساك بما يكمن أن يشكل عناصر للرؤية القادمة التي ستُسفر عنها نتائج هذه الجائحة.
سيكُون ممكنا جمعُ عناصر الرؤية حين يحطُّ الوباء أوزاره، وتُحصي الإنسانية خسائرها البشرية والمادية، ويشرع الهدوء والسكينة في الرجوع إلى داخل المجتمعات وفيما بينها. أما الآن وفي ضوء التطور الحاصل للجائحة، فيمكن الإشارة إلى بعض الظواهر المتفرقة هنا وهناك، التي يمكن أن تشكل في المستقبل قاعدة درس وتحليل، واستنتاج واستنباط.
فمن هذه الظواهر عنصر المباغتة وعدم التوقع، الذي جعل الوباء يهاجم دون سبق إصرار، وينتشر في سرعة قياسية. بل إن دولاً، كما هو حال بعض
البلدان الأوروبية (إيطاليا، إسبانيا، فرنسا)، لم تُقدر في بداية وصول الوباء إلى أراضيها، خطورته، وحجم الخسائر التي سيكلفها انتشاره وتمدّده في مجتمعاتها. كما أن بعضها، كما هو حال بريطانيا، أدلت بتصريحات قاسية في حق شعوبها، كما جاء موقف رئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون" في بداية وصول الجائحة إلى بلده، قبل أن يتراجع ويعتمد خطة للمواجهة لا تختلف عن خطط نظرائه من البلدان في أوروبا وآسيا.
ومن الظاهر أيضا اكتشاف مجمل البلدان الأوروبية، مُضافا إليها الولايات المتحدة الأمريكية، أنه على الرغم من تكرار التسويق لنجاح نظمها الصحية والبنيات الأساسية ذات الصلة بها، وجدت نفسها في بعض لحظات الذروة متجاوزة ولا حول لها ولا قوة. وقد اكتشفت، بالموازاة، كم هي في حاجة إلى إعادة النظر في سياساتها الصحية، بما يجعلها قادرة على مواجهة المخاطر، وتخطي
الأزمات، ومنها أزمة الأوبئة، دون عُسر أو ضيق في الإمكانيات والوسائل.
ومن جهة أخرى، كشفت جائحة كورونا عن محدودية التضامن الجماعي في الفضاءين الأوروبي والدولي. ففي لحظة اصطدام الدول الأوروبية والغربية عموما بهول الوباء، والتخبط في مواجهته، تواصلت الدول الأوروبية مع نزعتها الفردية، وأصبح كل بلد يبحث عن خلاصه لوحده، وهو ما عبر عنه الرئيس الكرواتي بمرارة شديدة. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية التي أساء رئيسها تقدير خطورة الوباء في بداية انتشاره، سرعان ما وجد إمكانياته، وهو البلد الأقوى في العالم، لا تفي بالمطلوب، وأنه هو الآخر في حاجة إلى دعم ومساعدة وتضامن.
من الظواهر التي أفرزها الوباء في بعض البلدان مقاومة فئات من المجتمع لقرارات العزل المنزلي، والحجز في المساكن، بل إن البعض منهم أساء تقدير خطورة الوباء، كما هو حال بعض البلدان غير الأوروبية، حيث تُعتبر التجمعات العائلية والعشائرية ذات أهمية بالغة في حياة الناس. والحقيقة أن أسبابا كثيرة تجد طريقها لتفسير هذا النوع من المقاومات، من قبيل معاناة بعضهم من واقع الهشاشة والفقر، وغياب موارد قادرة على مواجهة متطلبات الحياة في حالة التوقف عن العمل والنشاط. والحال أن غياب وسائل حقيقية وشاملة للرعاية الاجتماعية، يدفع بالكثير منهم إلى التمرد على الإجراءات الاحترازية.
ثمة وجه آخر للوباء، سيكون له الأثر البالغ في المدى القريب، وقد بدأت تظهر أولى عناصره، يتعلق بالنتائج الاقتصادية والمالية. والديناميات التي ستتولد عن هذه الجائحة، فالحركة الاقتصادية توقفت بشكل بارز، لا سيما في القطاعات الأكثر مردودية، كالسياحة والطيران، ووحدات الإنتاج، وقطاع الخدمات، وحتى النفط يعيش أسوأ أحواله، والقائمة طويلة.
سيكون لوباء كورونا
ما بعده، وقد دلت تجارب التاريخ أن البشرية قادرة على إعادة بناء الاقتصاد وتحريك عجلة الإنتاج ووضعها على سكتها الطبيعية، لكن ما هو أصعب ويتطلب وقتا وجهدا وصبرا، هو إعادة بناء رؤية جديدة للعالم ومصير بشريته. فالعالم قبل كوروبا فقد بوصلته، ومعالم طريقه، نلمس هذا التيهان في كل مجالات الحياة.. في القيم التي تغيرت بالكامل، وفي حال الطبيعة التي دمرناها بالتدريج، وفي كوكب الأرض الذي بدأ يختنق، وفي العلاقات الاقتصادية والإنتاجية التي نسيت الإنسان ككائن مكرم والإنسانية كقيمة مشتركة، وفي الحياة التي يجب أن تُعاش وتعود إليها سكينتها.. حتى الواعز الديني فقد صفاءه ونقاوته، وأصبح يوظف ويُلبس لبوسات لا علاقة لها بالدين.. ستزول كورونا ويزول الوباء، لكن نحتاج لأن نزيل الكثير من الشوائب التي ضغطت على عقولنا وأفقدتنا بوصلة العيش المشترك.