قضايا وآراء

أزمة كورونا بين المتدينين وخصومهم

1300x600
ماذا خسر العالم من إغلاق دور السينما والمسرح؟ سؤال يرد به بعض المتدينين على عدد من خصومهم الذين سخروا بعد مرور أسابيع على إغلاق دور العبادة في معظم دول العالم، تحسبا من كورونا في تلك المعابد والمساجد؛ بسؤالهم الاستنكاري: ماذا خسر العالم من إغلاق دور العبادة؟

وكلا السؤالين برأيي مرفوض منهجيا، ففي الوقت الذي ينشغل العالم كله بإيجاد لقاح لهذا الوباء، الذي يأكل الأخضر واليابس يصر بعض المأزومين على إدخالنا في جدال بيزنطي لا طائل منه، حيث أن خصم الدين لن تكون زاوية توبته تلك الجزئية، حتى لو جئته بعشرات الأدلة عليها، والعكس صحيح.

هذا الجدال يذكرنا بالشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، إذ يقول: رأيت صيدلانيا مشغولا ببحث قضية "صلاة تحية المسجد" أثناء خطبة الجمعة إن كانت سنة أم لا، وما الراجح فيها، فقلت له: لماذا لا تنصر الإسلام في ميدانك، وتدع هذا الموضوع لأهله من أهل الاختصاص في الشريعة؟ إن الإسلام في ميدان الدواء مهزوم! ولو أراد أعداء الإسلام أن يسمِّموا أمته في هذا الميدان لفعلوا!

أفما كان الأولى يا معشر الكيميائيين والصيادلة أن تصنعوا شيئا؟!

خلل الأولويات كبير ولا تختص به فئة دون أخرى؛ فمعظم الدول في العالم كله أقرّت بإغلاق المساجد منعا لانتشار العدوى، ولكن خصم التدين يترك أولئك جميعا، ويمسك برأي شاذ لأحدهم برفض إغلاق المساجد ليروج له، ويتخذه نموذجا على ضيق أفق المتدينين كما يحب أن يراهم.

وهو من الساعين لمنع الصيام  (مع أنه لا يوجد أي قرار طبي بذلك للحد من الوباء)، بل ويروج بسذاجة لتأجيل شهر رمضان كله.

ويتحسس كثيرا من التضرع إلى الله، والدعوة للاستغفار خلال مواجهة البشرية لهذا الوباء.

ولك أن تتخيل كيف اسود وجهه حين تردد صوت رفع الآذان في عدد من المدن الأوروبية، تضامنا مع مسلمي تلك الدول، لطمأنة نفوسهم ونشر السكينة بينهم.

المسلم الذي تربى على مائدة القرآن الكريم، وهدي النبي الأكرم، يذكر كيف مر (صلوات ربي وسلامه عليه) بأعرابي يلجأ إلى الله ويلح عليه بالدعاء، بجانب دابته المريضة ليشفيها الله تعالى له، فقال له: هلا جعلت مع الدعاء شيئا من القطران (الدواء المعروف في حينه لدهن الدابة المريضة)، ففهمه للدين قائم على الأخذ بالأسباب مع الدعاء "اعقل وتوكل".

وفي السياق أستغرب ما قاله الشيخ الجليل والعلامة الكبير محمد الحسن ولد الددو في تسجيل صوتي له: "فالمساجدلا تعطل؛ فهي أحب البقاع إلى الله.. ومن استطاع الحضور فليحضر، ومن لم يستطع كمن يخاف الضرر على نفسه أو يخاف الضرر منه على غيره فيستمع الخطبة ولا يهجرها.. بعض البلدان التي يمنع فيها من المساجد يحاول الناس أن يجدوا بديلا عنها.. والخوف والهلع الشديد الذي يَمنع كثيرا من الناس من الذهاب إلى المسجد كثيرا ما يجدون نظيره إذا ذهبوا إلى المستشفيات، ففيها من الزحام والتعرض للضرر أكثر مما يجدون في المساجد وكذلك في الأسواق.. أخذ الاحتياطات أنواع كثيرة وكلها ينوي الإنسان بها التقرب إلى الله بفعل ما أمر به، ولكن مع ذلك يعتقد أنها لن تضره ولن تنفعه".

انتهى كلام شيخنا.. والتعجب من هذا الطرح لم ينته، فالدراسات أشارت لانتشار الوباء على مسافة أربعة أمتار، ودخوله عبر فتحات التهوية، وكلنا يعلم كم يحمل السجاد الذي نسجد عليه في المساجد من ميكروبات وجراثيم، يحتاج وقاية ومزيدا من الاطلاع والحرص في الوضع الطبيعي، فما بالك والوباء متفشّ بهذا الشكل المخيف؟! حيث يبقى الفيروس ملتصقا بالسجاد لوقت طويل، ولا تمحو آثاره المكنسة الكهربائية التقليدية، فضلا على أن رواد المساجد بانتظام في كل الصلوات، هم كبار السن باعتبارهم متقاعدين ولا أعمال ينصرفون لها نهارا، وهؤلاء هم الأكثر عرضة للإصابة، والأكثر احتمالية لسوء حالتهم، مما يؤدي للوفاة وذلك لضعف مناعتهم.

ومسائل العدوى والأوبئة لا تترك لتقديرات الناس واجتهاداتهم، ومن ثم إذا أردنا تطبيق التباعد الاجتماعي والسماح لعدد محدود بالدخول، فمن هم الذين لهم أولوية الدخول؟ ومن نستثني ومن نمنع؟ ومن بيده السلطة لتطبيق ذلك في جميع المساجد؟

وأستغرب حقا الاستشهاد بأخطاء الآخرين لتبرير خطأ يمكن أن يقع، فنحن مطالبون شرعا بحفظ الأنفس، والابتعاد عن أكل الثوم والبصل عند الذهاب للمسجد، حتى لا يتأذى منه الآخرون، فكيف لنا والحديث عن وباءٍ خطيرٍ معدٍ لا دواء له، ولا يميز بين كبير أو صغير، معافى أو مريض؟!

قصة المنع ليست جديدة ولا طارئة في تاريخ أمتنا، فهذا العلامة محمد المنتصر بالله الكتانيّ في تفسيره للقرآن الكريم (الآية 27 من سورة الحج): يقول: "وأذكر منذ بضع سنين أن سيولا جاءت الحرم المكي فارتفع الماء إلى أن وصل إلى أبواب الكعبة، فتوقفت الصلاة في الحرم يومين، وعزّ على الكثيرين أن يروا الكعبة لا يطوف بها أحد، فنزلوا يطوفون سابحين عائمين، وقد أغراهم بعض من أخذ يطوف وهو يحسن السباحة والعوم، فلما نزل بعضهم (ممن لايعرف السباحة) غرقوا وماتوا، فاضطر المسؤولون أن يمنعوا الطواف لأن الناس تعرضوا للموت".

هؤلاء المسؤولون لا يمكن اتهامهم بأنهم ممن "منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه"، بل ينطبق عليهم قول المولى تبارك وتعالى "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". وفي المقابل، نعتبر من طاف وهو لا يجيد السباحة ممن ألقوا بأيديهم إلى التهلكة.

فيا خصوم الدين اذهبوا وجدوا لكم عملا مفيدا، فلا أسوأ من موقفكم يوم القيامة إن وجدتم كل ما أنكرتموه حقيقة ماثلة أمامكم، وَيَا أهل التدين هناك أمور تنصرون بها دينكم أكبر من الظهور بمظهر الخصم لصحة الناس وسلامتهم، كما يصر بعضكم على الظهور، وتذكّروا أن إثم أي شخص يُصاب أو يموت معلق في رقابكم.