احتضار مُجتمع

مع التزايُد المرعب لمعدَّلات الطلاق في المجتمع المصري، وبلوغه مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من نصف قرن، خصوصا بين الشباب من حديثي الزواج؛ فلا يُمكن أن يُصِر على جُملة الأعراف التي تواضَع عليها المجتمع لعقد هذا الرباط المقدَّس؛ إلا أحمق أو أعمى البصر والبصيرة، مع الأخذ في الاعتبار أن نسبة لا بأس بها من المتزوجين (من شرائح مختلفة) إنما يُبقي على هذا الرباط ويخشى الطلاق بسبب كلفته الماديَّة أو الاجتماعيَّة، أو حتى بسبب التَبِعة النفسيَّة على الأطفال، رغم أن معاناته لا تَقِلُّ عمَّن انفصلوا بالفعل.

وهذا يعني أننا بصدد أزمة حقيقيَّة؛ أزمة تكوينيَّة، أزمة أخلاقيَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة عنيفة. ولعلَّنا نكون أكثر الشعوب العربيَّة التي تعرَّضت لهذا التجريف والتشويه الممنهج خلال العقود الماضية، حتى تحطَّم التكوين الإنساني والنفسي الفطري للرجل والمرأة، وصارا كائنات مُشوَّهة لا ملامح لها. وهذا ما ينعكِس بعنف على الرابطة الزوجيَّة، بل ويؤذِن بتدهورٍ اجتماعي أعظم إذا استمر الحال على ما هو عليه.

ولعلَّ المخرج الوحيد من هذه الأزمة هو صدمة هذه الأجيال بأن أزماتهم ليست "شخصيَّة"، وإنما هي حزمة من الأزمات التربويَّة- النفسيَّة والاجتماعيَّة. إذ هُم ضحايا سوء التربية (أو انعدامها)، لكنهم أيضا قد أجرموا في حق أنفسهم؛ إذ لم يُدركوا عمق أزماتهم بعد أن خرجوا للحياة العمليَّة، ومن ثم لم يحاول كل منهم إصلاح عيوبه التربوية والنفسية بعد بلوغ سن النُضج. بل ربما يُجاوِز أكثرهم "سن النضج" وهو لم ينضج بعد؛ إذ لم يتعرَّف إلى طبيعة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا تعلَّم أخلاق الإسلام الأوليَّة والبدهيَّة التي تُعينه على تقويم نفسه وإصلاح أمرها؛ فلم يستجب من ثم للتكليف الذي خُلِقَ له.

إن أزمة هذا المجتمع ليست أزمة ذَكَر مُتنطع يستحل مال امرأته لأنه اعتاد (أو يتطلَّع إلى) مستوى معين من الحياة لا يستطيع توفيره بنفسه لنفسه (ولمن يعول)، ولا هي أزمة أنثى تَسترجِلُ لإحداث قدر من التوازن مع رجلها الرخو؛ تحقيقا لنمط حياة مادية اتفقا ضمنا على أولويته، وإنما هي أزمة أجيال نشأت على عبادة التطلُّع المادي والطبقي لترفٍ لا يُغني، ولا يُمكن تحقيقه إلا بتحطيم الفطرة والأسرة والمجتمع. وصاحب ذلك خواء روحي ونفسي انحرف بالرابطة الزوجيَّة عن هدفها وغايتها التي استنَّها الإسلام: تكوين أسرة مسلمة تُراقِب الله وتبتغي رضاه؛ انحرف بالرابطة فصارت آليَّة من آليات الانعتاق الطبقي، وأداة من أدوات زيادة الحراك المادي داخل المجتمع الاستهلاكي. فما دامت الأسرة تستهلِك أشياء أكثر، وتُنفِقُ مالا أكثر؛ فهي عند هؤلاء في خير، ولو كانت أسرة رقيقة الدين معدومة الأخلاق، لا تتحقق فيها رجولة رجل ولا أنوثة أنثى، ولا تحفظ فطرة الأطفال. لهذا؛ صار الذكر يُريد أنثى تستطيع التكسُّب، وصارت الأنثى بالمقابِل تُريد ذكرا يملِك ما يُحقق تطلعاتها الماديَّة والطبقيَّة التي لا تنتهي، لتتراجع مركزيَّة المعايير النفسية والخلقيَّة، التي يجب أن ينبني عليها هذا الميثاق الغليظ.

وهذا عكس ما أراده الله للمجتمع المسلم، عكسه على طول الخط؛ ولو أذعن له المذعِنون. لهذا؛ فسيزداد هذا المجتمع بؤسا، وتزداد أزمته عُنفا، ويزداد حاله تدهورا، ولو أنفق المليارات على المساكِن التي يُباهي بها الأقران بعضهم بعضا، ولو أنفق المليارات على التعليم السطحي البائس في المدارس الباهظة، وأنفق المليارات على الملبس التافه الذي يستعرِض به طبقته حينا ثم يستبدله بعد شهور، وأنفق المليارات على طعام غريب مُقزز يُدمر عافيته. فهذه كلها ليست مقومات حياة المجتمع المسلم، ولا هي بالمقومات التي يتحقق بها السلام النفسي والسِلم الاجتماعي، إنما هي في آخر الأمر، وفي التحليل الأخير؛ محض أدوات تزيد من سلاسة دمجه في آلة المجتمع الاستهلاكي، وتُيسر استغلاله، واستغلال ذُريته من بعده. إنه مُجتمع مفكك مشوه؛ يختلِق في أحسن الأحوال: "مواطنين صالحين لسوق العمل"، لا مُؤمنين يسلكون طريق الله رجاء لقائه في يوم معلوم.. وشتان شتان!