السياسي أول من يعلم وآخر من
يتعلم.. يمتلك كل مصادر المعلومات والاستخبارات، ويفتقر غالبا للحكمة في توظيف هذه
المعلومات وقت الشدائد والأزمات.. يفهم كثيرا في أمور الحرب والصراع، ويفهم قليلا
في أمور الصحة والغذاء.. حتى في أقسام العلوم السياسية العلاقات الدولية، يدرس
الطلاب تاريخ الصراع وفنون الشد والجذب، ولا يأتي التضامن الإنساني سوى في آخر
قائمة أولويات العلاقات بين الدول المبنية على المصالح الضيقة. وقد جاءت أزمة
كورونا كاشفة لهذه الحقيقة وموضحة هذه الفجوة الرهيبة.
ولأن النظام الدولي الحالي مبني
على كثير من التنافس والصراع، وقليل من التضامن والتكافل، فقد كان ولا بد أن تتحول
أزمة وباء كورونا إلى صراع فيه غالب ومغلوب، وظالم ومظلوم، ومعتدٍ ومعتدى عليه.
وقد
أفاقت الولايات المتحدة ومن بعدها بريطانيا وفرنسا؛ وتذكرت فجأة أن الصين دولة
شمولية لا تأبه كثيرا لدقة المعلومات عن أحوالها الداخلية. وتناست حملات العام
الماضي عن الانتهاكات بحث المسلمين الأويغور وإنكار الصين لهذه الانتهاكات. وبدلا
من التركيز على أطر دولية جديدة للتعامل مع الوباء، بدأ الحديث عن كبش فداء
لانتشار الوباء الذي بات أمرا واقعا ليصبح مجرد أداة في دوامة الصراعات الدولية
اللامتناهية بين القوى الكبرى.
لا يمكن لعاقل أن يثق في المعلومات
الرسمية
التي تعطيها الصين، لكن لا يمكن لعاقل أيضا أن يصدق أن الدوائر
الاستخباراتية الغربية كانت تعتمد على ما تنشره الحكومة الصينية لتعرف تفاصيل
وحدود انتشار الوباء منذ أواخر العام الماضي. وهو أمر كشفت عنه صحيفة شبكة "إيه
بي سي" الإخبارية، عندما أوردت أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاهل تقارير
استخباراتية وصلته في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 عن انتشار الوباء. وهناك تقارير استخباراتية
أخرى صدرت في كانون الثاني/ يناير هذا العام وكشفت عنها صحيفة الواشنطن بوست.
الأمر إذاً لا يتعلق بقلة
المعلومات بقدر ما هو فشل في التعاطي معها؛ لأنها ببساطة تتعلق بصحة الإنسان، وهو
أمر يأتي في ذيل الأولويات السياسية حتى في كثير من الديمقراطيات الكبرى. فقد كان
الارتباك واضحا في التدابير التي اتخذتها كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا
والولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، فقد أقام 600 طبيب دعوى قضائية ضد رئيس
الوزراء الفرنسي إدوار فيليب ووزيرة الصحة السابقة أغنيس بوزين، لكذبهما وتقصيرهما
في اتخاذ التدابير اللازمة للوقاية من كورونا رغم علمهما المسبق بخطورة الوباء.
وستكشف الأيام القادمة عن كثير من المآسي لدى العاملين في القطاع الصحي في كثير من
هذه الدول بسبب قلة المستلزمات الطبية وأدوات الوقاية، ما أدى لإصابة كثير منهم.
هذا بالنسبة للدول الغنية والمفترض أنها تهتم بصحة الإنسان، فما بالنا بالدول
الفقيرة؟
وفي الوقت نفسه، يعلم الجميع أن
منظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات الدولية ما هي إلا أدوات تنسيق بين الدول
وليست بديلا عن أدوارها. كما يعلم الجميع كم الضغوط السياسية التي تقع عليها، وكم
تجاوزات الدول لقرارتها وتوصياتها بدعاوى السيادة والأمن ومكافحة الإرهاب. وأبرز
دليل على ذلك حرب العراق عام 2003 التي جاءت من دون غطاء أممي، بالإضافة لتوصيات
مجلس
الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المستمرة التي يضرب بها عرض الحائط. ولذا فإنه
من السخف التعاطي مع أزمة وباء كورونا من
منظور منظمة الصحة العالمية، على ما قد
يكون فيها من فساد وبيروقراطية.
لقد طور النظام الدولي عدة آليات
للإسعاف المالي، على نقصها، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. كما طور آليات أخرى
لتعاون الأمني والاستخباراتي السري، وهي قطعا من أنجح أوجه التعاون. وقد حان الوقت
لتطوير آلية أخرى للدعم الصحي، بعد أن بات واضحا أن السياسات الصحية المحلية بدت
عاجزة عن مواجهة فيروس واحد.