كان مخيم اليرموك، الممتد من شارع صفد إلى لوبية والجاعونة، ويازور وطبريا وعطا الزير وأم الفحم والناصرة والكرمل والجرمق، وترشيحا وأسدود، يحتضن أسماء قرى ومدن
فلسطين، كتبت على شاخصات الأزقة المتهاوية في المخيم والمدارس والجوامع المدمرة بطائرات الميغ الأسدية الروسية. تتناسل منه اختصارات النكبة الأولى والأحلام "الأبدية"، إلى الأحلام المستحيلة لجوع فحصار وموت وحطام وتعفيش.
ما الذي يعنيه مخيم اليرموك عند ركام الجثث دون
اللاجئين المنكوبين، الطارقين أبواب العواصم الموصدة؟ في المخيم مكتبات مترامية محترقة بقذائف النكبة، كتب مفتوحة على قصص غسان كنفاني وهي تطلق العنان لحناجرها التي تصدح: يا غسان لم نقرع جدران الخزان، فقط بل حطمنا الجدران، وأسقطنا شعارات حصارنا، رجالك تحت الشمس باتوا جثثا متفحمة في اليرموك.
في أحدث فيلم من مخيم اليرموك قبل أيام (بتاريخ 2 أيار/ مايو 2020)، ما زال عناصر جيش تعفيش نظام بشار الأسد، يحرقون أسلاكا كهربائية من بيوت اللاجئين لاستخراج النحاس وبيعه، ولم تزل مطارقهم تقتلع الأبواب والنوافذ وتحطم ما تبقى من صور المهجرين، ومقاعد المراحيض والرخام بعد سبعة أعوام على تهجيرهم وتدمير المخيم، ولم تزل طائفة من فصائل فلسطينية تجهز خيمة الاحتفال بذكرى النكبة على مداخل اليرموك لتلوك شعارات الأعوام السابقة.
اثنان وسبعون عاما مرت على ذاك اليوم الكئيب، الخامس عشر من أيار/ مايو 1948. في المدن التي حمل أسماءها المنكوبون إلى بلدان اللجوء، ونصوص الوفاء التي تكتب في كل ذكرى للنكبة في كتب الخديعة الثقافية والسياسية، ما هي إلا احتماء من ظل عارٍ يلاحق أبو الخيزران فوق المنصة وتحت تراب القبر. وأحفاده يرتعون ويرعدون على المنابر وفي أروقة السياسة والثقافة.. ويحتفلون بذكرى نكبةٍ لم تنته فصولها، لأن الاحتفال يعني لأبي الخيزران موت الرقيب والضمير.
عامان وسبعة عقود، انفلت الفلسطيني فيها من طوق إبادته، لاحقته
المجازر والمحارق، في أيار/ مايو 48 نكبة كبرى، ثم توالت نكبات أخرى لا تقل فجاعتها عن الأولى.. في جرش والوحدات وعين الحلوة والرشيدية وصبرا وشاتيلا وجباليا وجنين والبداوي ونهر البارد، إلى رحلة العذاب والشتات في اليرموك عند الحد الفاصل بين نكبة الأمس التي جزت فيها عصابات الحركة الصهيونية رقاب أصحاب الأرض في القرى والمدن، وما بين نكبة الفلسطيني في
مخيماته السورية ونكبته في أنظمة متخاذلة متواطئة صامتة عن مذبحة ونكبة في مخيمات وأقبية تحمل اسم "فلسطين" ومسالخ بشرية.
نكبة اللاجئين في 2012 في مخيمات اليرموك ودرعا وحمص وحلب، ليست كسابقاتها، فالنكبة القابعة على الحدود والمطارات وفي غرف الأجهزة الأمنية وعلى منابر التحريض العنصري تتفجر ما بين الضلوع لتعبث فسادا في التاريخ والعقل، وتمنح البراءة لسكين المحتل وبرميل الطاغية من دم المنكوبين المسفوح في مخيماتهم. يمضي أبناء حيفا ويافا والناصرة والقدس واللد والشجرة واجزم والنصيرات والشجاعية، وكوكب أبو الهيجا، مع بقية نسلهم المتشظي من نكبة إلى نكبة، ويمضي الفلسطيني المنكوب في حماية ذاكرته وهو يحاول إعادة الأمل لقضيته كرمز شامل للحرية والعدالة.
كم هو الفرق شاسع بين نكبة الفلسطيني القادمة من وراء البحار، ومن شتات الأساطير التلمودية والتوراتية، وتلك التي تتفتق عنها عقلية الطغاة والمستبدين لإحكام النكبة على رقبة الفلسطيني؟ وكم هي أساطير الشعارات عن "تحرير فلسطين" بحاجة لأن يتحرر أجساد المنكوبين منها في فرع فلسطين وبقية الفروع الأمنية العربية وفي المطارات والحدود.
في الماضي كانت الذاكرة تنزلق لتستقر في أيار/ مايو 1948، لكنها تنفجر دون استقرار نحو بغداد والقاهرة ودمشق وعمان وبيروت والرياض وأبو ظبي ورام الله وغزة، وهي تطرح سؤالها المؤرق: إذا كانت الوقائع التاريخية قد همشت موضوعيا حق المنكوبين واللاجئين أصحاب الأرض ومركز القضية وأس النكبة، فلماذا يتحد المشهد الراهن على الهامش لتحقيق هزيمة مدوية بحق المنكوبين بالتهافت على مشاريع وصفقات تنال من حقهم؟
وإذا كانت الأسباب التي أدت لصعود تيار مناصر للمشروع الصهيوني قد ذُكرت في أروقة الدسائس الرسمية العربية والفلسطينية الرسمية، فإن لاستمرار الفلسطيني في الاحتفاظ بقوة
حقه في أرضه والعودة إليها أسباب كثيرة ومتعددة، أولها: أن كثرة المؤامرات والمجازر وموروث النظام الرسمي العربي التقليدي المناصر لفلسطين دون شعبها يفصح عن قوتين؛ واحدة يحتفظ بها اللاجئ المنكوب يرتل أبجدية الزيت والزعتر والميرمية، وبها يصارع نكبته جيلا وراء جيل، يُسكنها في أعماق أعماقه ويرمي أثقالها الأخلاقية في وجه العالم، وأخرى يناهضها منذ سبعة عقود وهي تعكس ما يحاك للفلسطيني وقضيته، وهو ما يستدعي الارتقاء إلى مستوى أبعد من إحياء يوم نكبة وإخفاء بقية النكبات، والطبطبة على كتف من يحدثها بالتصفيق لطواحين الهواء وهي تذري شعارات عن تحرير فلسطين والقدس بنفخ وتمجيد نسل أبي الخيزران.
twitter.com/nizar_sahli