قامت جمهورية الولايات المتحدة على الإبادة الجماعية للسكان الأصليين وسرقة أراضيهم ومنازلهم، وعلى ظهور الأفارقة الذين اختطفوا من أوطانهم ونقلوا إلى "أرض العبيد" كمُلكية خاصة. وعلى الرغم من ذلك كله، وبدلاً من التوبة والتكفير عن خطاياهم، فإن معظم الأمريكيين البيض، وهم الورثة والمستفيدون حتى اليوم من هذا الإرث العنصري، يزعمون، ويجبرون الأمريكيين غير البيض على الزعم معهم، بأن بلدهم هي "أرض الأحرار ووطن الشجعان"، كما يصرح بذلك نص النشيد الوطني الأمريكي دون وجل، رغم أن "أرض العبيد ووطن الشجعان" هو التوصيف الأكثر دقة والذي خلافًا للنص المعتمد بالإنجليزية لا يخلّ بوزن النشيد أو بالقافية. وفي واقع الأمر، فقد أشعلت كلمات النشيد الوطني العنصرية، التي تم تأليفها في عام 1814، سجالًا في السنوات الأخيرة لتأييدها للعبودية، لا سيما عندما تزعم أن الولايات المتحدة هي بلد "حرّ".
تاريخ نظام العبودية في أمريكا
لم تكن مفاهيم الحرية والاستقلال للمستعمرين الذكور البيض في المستعمرات الأمريكية الثلاثة عشر (سواء كانوا يمتلكون العبيد أم لا) تعني في الأساس سوى حماية ممتلكاتهم (بما في ذلك العبيد) ومصالحهم التجارية من تطفل بريطانيا وفرض الضرائب عليهم، والتي نظروا لها على أنها شكل من أشكال "العبودية".
وخلال حرب الاستقلال ضد بريطانيا، عرضت مستعمرات كفرجينيا، وكارولينا الشمالية والجنوبية، وجورجيا الأرضَ والعبيد على المتطوعين البيض الذين انضموا إلى الثورة لتأسيس "ديمقراطية" تفوق العرق الأبيض الأمريكية ونظام العبودية الخاص بها. ولم يقتصر الأمر على أولئك المقاتلين البيض، وإنما زُجَّ بالعبيد السود للقتال من أجل نيل "حرية" أسيادهم البيض من البريطانيين. وقد كان هنالك العديد من المستعمرين البيض الآخرين، المعروفين بــ "المُوالين"، الذين دعموا البريطانيين ضد الاستقلال الأمريكي. لكن بعد هزيمة بريطانيا في الحرب في عام ١٧٨٣، هرب مائة ألف منهم من الولايات المتحدة كلاجئين، واصطحبوا معهم عبيدهم البالغ عددهم ١٥،٠٠٠ عبد.
لم يجلب دونالد ترامب نظام فوقية العرق الأبيض الأمريكي، حتى وإن احتفى "بعظمته" وعقد العزم على استعادة أمجاده الغابرة. وفي الواقع، ليس ترامب سوى وريث للجمهورية التي بناها جورج واشنطن وأبراهام لينكولن وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي وليندون جونسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان وبيل كلينتون وبالطبع باراك أوباما.
انضم الآلاف من العبيد إلى الجيش البريطاني الذي وعدهم بالحرية وبالعتق من العبودية إذا هم قاتلوا إلى جانب البريطانيين. وقد تم إجلاؤهم جميعًا، إلى جانب الموالين البيض وعبيدهم، على متن السفن البريطانية إلى مستعمرة نوفا سكوشيا (التي أصبحت جزءً من كندا فيما بعد) وإلى بريطانيا بعد الهزيمة. وسرعان ما قرر البريطانيون أن الحل الأفضل للسود المحررين والعبيد الأمريكيين المحررين هو طردهم إلى غرب إفريقيا كمستعمِرين استيطانيين وكمبشرين بروتستانت للأفارقة "الوثنيين". هكذا ولدت دولة "سيراليون" كمستعمرة استيطانية سوداء تحت حكم البريطانيين البيض في نهاية القرن الثامن عشر.
أما في جمهورية الولايات المتحدة المستقلة حديثًا، فقد بدأ "الآباء المؤسسون" البروتستانتيون من ملّاك العبيد في التخطيط لمشاريع جديدة بما يجب عليهم فعله بالسود المحررين من العبودية داخل جمهوريتهم. وقد ظهرت فكرة "عودة" السود إلى أفريقيا على صفحات بعض المنشورات في أوائل القرن الثامن عشر، لكنها هيمنت على المناقشات في شؤون العبودية والعرق في الولايات المتحدة ما بين فترة الثورة ضد البريطانيين في عام ١٧٧٦ والحرب الأهلية في فترة ١٨٦١- ١٨٦٥. وقد دعم ترحيل السود الأحرار العديد من مالكي العبيد والمحافظين الشماليين المناهضين للعبودية وكذلك المبشرون الإنجيليين البروتستانت والسياسيون البارزون، بما في ذلك الرؤساء الأمريكيون جيفرسون ومونرو والرئيس لينكولن لاحقًا.
الجمعية الأمريكية لاستعمار الشعوب الحرة الملونة في الولايات المتحدة
وقد تأسست في عام 1816 "الجمعية الأمريكية لاستعمار الشعوب الحرة الملونة في الولايات المتحدة" (نعم هكذا كان اسمها بالفعل!) للترتيب لترحيل السود المحررين (تم تغيير اسمها لاحقًا إلى "جمعية الاستعمار الأمريكية"). وهكذا تأسست دولة ليبيريا كمستعمرة استيطانية سوداء في غرب إفريقيا في عشرينيات القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن بعض السود المحررين دعموا هذه الجهود، فإن غالبية المثقفين والمناضلين السود، بما في ذلك المثقف والمناضل الأسود فريدريك دوغلاس، عارضوا الاستعمار الاستيطاني الأسود في غرب إفريقيا وعدّوه مُحقين وسيلة لترحيل السود الأحرار بغية تكريس العبودية داخل الولايات المتحدة. كما دعا سود آخرون إلى الهجرة إلى هايتي، التي كانت قد حررت نفسها قبل ذلك ببضع سنوات من العبودية والاستعمار الفرنسي ودعت السود المستعبدين في الولايات المتحدة إلى الفرار إلى شواطئها. وقد تمكن بضعة آلاف من العبيد من الوصول إلى هايتي والهروب من طغيان العبودية العنصرية الأمريكية.
أما رئيس الجمهورية أبراهام لنكولن، الذي يتم تمجيده دون كلل في التاريخ القوموي الأمريكي كمدافع عن السود من قبل الليبراليين البيض والمحافظين على حد سواء، فقد أصر في عام 1854 على أن "دافعي الأول هو تحرير جميع العبيد وإرسالهم إلى ليبيريا ـ وطنهم الأم"، لولا ارتفاع التكاليف. وفي أواخر عام 1858، أصر لينكولن المناهض للعبودية ولكن المناهض أيضًا للمساواة بين الأعراق، على أن "ما أريده أكثر هو فصل العرق الأبيض والأسود عن بعضهما البعض". ففي عام 1861، بعدما تولى منصب الرئاسة، حث لينكولن الكونغرس على ضرورة إيجاد أموال للمساعدة في هجرة السود وتوطينهم خارج الولايات المتحدة، واقترح عليهم الحصول على منطقة جديدة لهذا الغرض. وقد اقترحت إحدى صحف واشنطن تسمية المستعمرة السوداء المقترحة "لينكولنيا" تيمنًا بالرئيس. وقد فرّ من البلاد أثناء وبعد الحرب الأهلية الأمريكية في ستينيات القرن التاسع عشر ما بين 10000 و20000 أمريكي أبيض من ملّاك العبيد من الولايات الجنوبية مصطحبين معهم عبيدهم، واستقر معظمهم في البرازيل حيث كان الرق لا يزال قانونيًا، على الرغم من أن آخرين قد فرّوا أيضًا إلى فنزويلا وكوبا والمكسيك.
وفي حين تم تحديث نظام العبيد في الجنوب الأمريكي بعد الحرب الأهلية بنظام جيم كرو للفصل العنصري، فقد حكمت مجموعة من القوانين والممارسات المؤسسية العنصرية في الشمال حياة العبيد المحررين والسود الأحرار على السواء. فقد كانت العنصرية منتشرة في الشمال كما في الجنوب، رغم أن الليبراليين الأمريكيين البيض في كثير من الأحيان يصورون الشمال على أنه معاد للعنصرية أو على الأقل غير عنصري مقارنة بالجنوب. وقد تعرض سود الشمال الأمريكي للاضطهاد والتمييز في الإسكان والتعليم وفرص العمل والخدمات الاجتماعية، ناهيك عن نظام العدالة الجنائية ووحشية الشرطة. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، تم بناء مدن بيضاء حصريًا في طول البلاد وعرضها تسمى "الضواحي"، كما اعتمدت اللوائح الخاصة بالتعليم على الضرائب العقارية في "المناطق التعليمية"، والتي ضمنت مدارس ممتازة لسكان الطبقة المتوسطة البيض ومستوى تعليم متدن في مناطق السود الفقيرة. وبعد اندلاع الثورة السوداء الهائلة، والمعروفة باسم حركة الحقوق المدنية في الستينيات، تم إدخال ممارسات جديدة لإنهاء مظاهر التمييز، بما في ذلك نقل الطلاب من مناطقهم المدرسية إلى مناطق أخرى للحد من نظام الفصل العنصري. لم يكن البيض العنصريون الجنوبيون فقط هم من عارضوا عملية النقل في الحافلات المدرسية، وإنما كذلك البيض "الليبراليون" عبر المدن الشمالية "الليبرالية"، بما في ذلك مدينة بوسطن في منتصف السبعينيات، والسيناتور (والمرشح حاليًا للرئاسة) جو بايدن الذي قاد جهادًا مضنيًا في مجلس الشيوخ لإنهاء عملية نقل الطلاب وخلط الأعراق في ولاية ديلاوير.
كيف حافظ النظام العنصري على نفسه؟
وبما أنه توجب إلغاء قوانين العمل التمييزية بعد ثورة الحقوق المدنية، فقد استطاع النظام العنصري الحفاظ على نفسه من خلال منح امتيازات "الأقدمية" في الوظيفة، كي يستفيد البيض منها حصريًا، حيث تم إعفاء مبدأ "الأقدمية" من مقررات الباب السابع من قوانين الحقوق المدنية الصادر عام ١٩٦٤. وقد كان قانون امتيازات الجنود الصادر بعد الحرب العالمية الثانية موجهًا للجميع من حيث المبدأ ولكن تم تطبيقه على البيض حصريًا وحرم الجنود السود من امتيازاته، كما تضمنت عقود ملكية البيوت تعهدات عنصرية لحرمان السود من السكن في الأحياء البيضاء. هذا بالإضافة إلى التمييز الهائل ضد السود في أنظمة القبول في الجامعات والكليات.
وفي الستينيات وأوائل السبعينيات بعد اغتيال القادة والنشطاء السود والسجن الجماعي لمن لم يتم اغتياله منهم، تمت مأسسة نظام جيم كرو البوليسي الجديد ليحل محل نظام جيم كرو للفصل العنصري القديم الذي كان قد تم تفكيكه للتو. ولم يكن نظام جيم كرو الجديد مدعومًا فقط من قبل المحافظين والليبراليين البيض، بل دعمته أيضًا النخبة الصغيرة الجديدة من سود الطبقة المتوسطة الذين تم ترويضهم، لا سيما المنتخبين منهم للمناصب السياسية عبر الهياكل الحكومية المحلية والاتحادية. وقد جنى السياسيون من "القادة السود" الجدد، الذين تم انتخابهم وتعيينهم، أو من تطلق عليهم مجلة الإنترنت "بلاك أجيندا ريبورت" بدقة لقب "المضللون السود"، فوائد النظام العنصري الأمريكي، بينما يقومون بتسويق جمهورية الولايات المتحدة لناخبيهم السود "كدولة حرة" تتخللها بعض المشاكل العرقية التي يمكن معالجتها ضمن نظامها "الديمقراطي" المزعوم. وقد كانت هذه هي الخلفية التي دفعت بباراك أوباما إلى واجهة السلطة السياسية في القرن الحادي والعشرين.
تغنى أوباما، شأنه شأن الليبراليين البيض، وكال المديح للـ "آباء المؤسسين" البيض للولايات المتحدة من ملّاك العبيد في خطابه التدشيني لتوليه الرئاسة كما فعل في مرات عديدة بعد ذلك،
لقد كان باراك أوباما، الذي يحتفى به كأول رئيس أسود، بطلاً مهولًا لليبراليين البيض الذين يرحبون دائمًا بالمسؤولين السود الذين يرددون العنصرية "الناعمة" لليبراليين البيض عبر تبنيهم خطاب، ولكن ليس سياسات، حركة الحقوق المدنية. وقد تغنى أوباما، شأنه شأن الليبراليين البيض، وكال المديح للـ "آباء المؤسسين" البيض للولايات المتحدة من ملّاك العبيد في خطابه التدشيني لتوليه الرئاسة كما فعل في مرات عديدة بعد ذلك، وأثنى باستمرار على "الأمريكيين الذين يعملون بجد" (وهي الشيفرة العنصرية الأمريكي للإشارة إلى المواطنين البيض خلافًا للسود الذين تصورهم العنصرية البيضاء على أنهم "كسالى")، وقام بالتنديد بالآباء السود الغائبين عن عائلاتهم، متناسيًا أن معظمهم يقبعون في السجون العنصرية الأمريكية، كما وبخ خريجي الجامعات السود في خطابات وجهها إليهم يوم تخرجهم. وفي تلك الأثناء، لم تقم وزارة العدل بإدانة شرطي أبيض واحد قام بقتل مواطنين سود دون مبرر خلال سنوات أوباما الثماني في الحكم، بما في ذلك الشرطي الأبيض القاتل الذي قام بخنق إريك غارنر حتى الموت في عام 2014 في نيويورك ـ وقد كانت كلمات غارنر الأخيرة، شأنها شأن كلمات جورج فلويد الأخيرة، "لا أستطيع التنفس".
كما لم تتم إدانة الشرطي الأبيض الذي قام بقتل مايكل براون، شاب أسود غير مسلح كان يبلغ ثمانية عشر عامًا من العمر، في مدينة فيرغسون في ولاية ميزوري، بعد أسابيع قليلة من مقتل غارنر. وقد اندلعت انتفاضة فيرغسون أثناء حكم أوباما، لكنه وكما هو متوقع من هذه الطبقة من رجال الأعمال والساسة السود، ومعظمهم من المتعاونين مع نظام التفوق العنصري الأبيض، لم يحقق أوباما العدالة للأمريكيين السود.
لم يجلب دونالد ترامب نظام فوقية العرق الأبيض الأمريكي، حتى وإن احتفى "بعظمته" وعقد العزم على استعادة أمجاده الغابرة. وفي الواقع، ليس ترامب سوى وريث للجمهورية التي بناها جورج واشنطن وأبراهام لينكولن وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي وليندون جونسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان وبيل كلينتون وبالطبع باراك أوباما.
أما سلوك أوباما الأرعن الأخير فيشير إلى أنه لم يكتفِ باستغلاله الناخبين السود بينما هو غارق في رفاهية ثرية على متن اليخوت الفارهة وفي قصره الجديد الذي تبلغ تكلفته 12 مليون دولار في منطقة مارثاز فينيارد للأثرياء، بل يبدو أن خطة أوباما الجديدة تسعى إلى عدم تضييع فرصة الانتفاضة الأمريكية السوداء الأخيرة وذهابها سدى. فهو يسعى لإلحاق ضرر أكبر بالسود الأمريكيين من خلال فرضه زوجته النيوليبرالية ميشيل على الشعب الأمريكي كرئيسة مستقبلية لمدة 8 سنوات أخرى من حكم آل أوباما، إن لم يكن لفترة أطول إذا ما تم اختيارها كنائب للرئيس جو بايدن في حال انتخاب الأخير في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم. فإعلان باراك أوباما هذا الأسبوع الذي أدان فيه الانتفاضة وحث الناس على الإيمان بنظام العدالة العنصرية الأمريكي ليس فريدًا. فنحن نرى صداه في إدانة باقي طبقة "المضللين" السود لـ "عنف" الانتفاضة، بما فيهم رئيستا بلديات مدينتي أتلانتا وواشنطن العاصمة.
ما لم يعبّر الأمريكيون البيض، و"المضللون" السود، عن مشاعرهم بالعار المطلق من تاريخ وحاضر جمهوريتهم العنصرية ذات التفوق الأبيض وآبائها المؤسسين ويتنصلون من الامتيازات العرقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوق التفاضلية التي تمنحها لهم، فلن يتغير شيء في هذه الجمهورية العنصرية. فحتى ينضم الأمريكيون الأمريكيين البيض، الليبراليون والمحافظون على حد سواء، إلى الأمريكيين من أصول أفريقية والأمريكيين الأصليين والأمريكيين اللاتينيين والأمريكيين الآسيويين وجميع المواطنين الملونين في استبدال هذا النظام العنصري الأبيض بجمهورية معادية للعنصرية، سياسيًا واقتصاديًا، لن تتوقف انتفاضات الأمريكيين الأفارقة وحلفائهم ضد جمهورية التفوق الأبيض الأمريكية في المستقبل المنظور.
*جوزيف مسعد: أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، وقد صدر له حديثًا كتاب "الإسلام في الليبرالية" عن جداول للنشر في بيروت (٢٠١٨) وكتاب "آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن" عن دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩).
قراءة الأتراك لأحداث الولايات المتحدة
تناقضات الموقف الأمريكي من الحرب على طرابلس