منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى الرئاسة، تكررت بشكل لافت التوترات
الدبلوماسية بين
الجزائر وفرنسا، والتي وصلت إلى الذروة بقرار الجزائر سحب سفيرها
من باريس لوقت غير محدّد، فهل يتعلق الأمر بمرحلة جديدة في
العلاقات بين البلدين؟
لم يخطئ من وصف العلاقة الرسمية بين الجزائر وفرنسا بـ"الحميمة"، إذ
يجد مسؤولو البلدين دائما طريقة ما للتقليل من حدة الخلافات التي تعاود في كل مرة
الظهور من جديد، كما هو شأن الفترة الأخيرة التي كان كلما بلغ التوتر فيها أشده،
سارع الرئيسان عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون إلى الاتصال وإيجاد طريق للتفاهم.
وفي آخر حلقات التوتر، أبدت الجزائر انزعاجها الشديد من بث القناة العمومية الفرنسية
"فرانس5" شريطا وثائقيا يسرد أحداث الحراك الشعبي الذي انطلق في
فبراير/شباط 2019، على لسان مجموعة من الشباب، ركزّوا في أحاديثهم على التحرر من
القيود الأخلاقية التي تضبط المجتمع، واعتبار الحراك وسيلة للوصول للحرية الجنسية.
وثائقي يفسد العلاقة
ومما أغضب السلطات الجزائرية، أن الوثائقي الفرنسي ورد فيه أن نجل الرئيس عبد
المجيد تبون، كان مسجونا في قضية كوكايين، في حين أن قضيته كانت تتعلق باستغلال
النفوذ وخرج منها بريئا، كما صوّر عملية الإطاحة بالرئيس السابق عبد العزيز
بوتفليقة كما لو كانت انقلابا عسكريا من رئيس أركان الجيش الراحل الفريق أحمد قايد
صالح.
واستدعت السلطات الجزائرية إثر ذلك سفيرها في باريس فورا
للتشاور، وذلك لمدة غير محددة، احتجاجا على ما اعتبرته "تهجما على الشعب
الجزائري ومؤسساته، بما في ذلك الجيش الوطني الشعبي". لكن السفير، يبدو أنه
سيعود لمنصبه قريبا بعد مكالمة هاتفية بين الرئيسين تبون وماكرون تحدث فيها عن
رغبة بلاده في علاقات هادئة مع الجزائر.
وسبق للخارجية الجزائرية أن استدعت سفير
فرنسا بالجزائر، نهاية شهر آذار/ مارس،
لإبلاغه احتجاج الجزائر الشديد على التصريحات التي اعتبرتها "كاذبة وبغيضة"،
على استضافة قناة فرانس 24 العمومية محللا ادعى أن المساعدات الصينية ذهبت لمستشفى
عسكري بالجزائر ولم يستفد منها المتضررون من فيروس كورونا.
وساد العلاقات بين الجزائر وفرنسا في فترة تنظيم الانتخابات الرئاسية الأخيرة
شهر كانون الثاني/ديسمبر، توتر صامت، بسبب الموقف الفرنسي الداعي لتنظيم مرحلة
انتقالية في الجزائر ورفض مساندة خيار الانتخابات الرئاسية، وهو ما قابله مسؤولون
جزائريون بهجوم حاد ضد فرنسا.
وفي يوم إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية، هاجم تبون في ندوته الصحفية الأولى،
الرئيس الفرنسي، قائلا إنه يرفض توظيف الجزائر في خطاب ماكرون الموجه لشعبه، وذلك
على خلفية دعوة الأخير الرئيس الجديد في الجزائر، لفتح حوار مع مواطنيه لإيجاد حل للأزمة السياسية.
"لم تتكرر منذ 25 سنة"
وفي تعليقه على حال
العلاقات بين البلدين، قال فريد عليلات مراسل مجلة جون أفريك الفرنسية في الجزائر،
إن الجزائر لم يسبق لها استدعاء سفيرها من باريس منذ 25 سنة، ما يشير حسبه إلى حجم
التوتر الذي بلغته العلاقات في الفترة الأخيرة.
وأوضح عليلات في
تصريح لـ"عربي21"، أن الجزائر انتفضت سنة 1995 ضد اقتراح الرئيس الفرنسي
السابق فرانسوا ميتيران بخصوص تنظيم ندوة أوربية حول الأزمة الأمنية الجزائرية،
وقامت باستدعاء سفيرها حسين جودي لعدة أسابيع لكن منذ ذلك التاريخ، عرفت العلاقات
بين البلدين، حسبه، عدة توترات ومقاطعات، كانت تنتهي دائما بالتصالح.
ويعتقد صاحب كتاب
"بوتفليقة.. التاريخ السري"، أن الرئيس تبون يحاول تبني أسلوب جديد في
التعامل القوة الاستعمارية السابقة، يقوم على تكثيف الضغط على السلطات الفرنسية، عبر انتقاده المتواصل لفرنسا واتهام أطراف
داخلها بالتآمر على الجزائر، وحديثه على أن الاستعمار الفرنسي تسبب في قتل 5.5
مليون جزائري.
ويرى المتحدث أن
تبون يحاول تمرير رسالة للسلطات الفرنسية، مفادها أن "الجزائر التي كانت في
فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، غائبة وصورتها مشوهة وحضورها الدولي ضعيف
ودبلوماسيتها معطلة، لن تكون كذلك في فترة رئاسته".
"مكاسب داخلية"
لكن انتفاضة السلطات
الجزائرية الأخيرة ضد ما بثته قنوات عمومية فرنسية، في رأي عليلات، كان الهدف منها
أيضا، "تحقيق عدة مكاسب سياسية داخلية أبرزها إظهار السلطة على أنها الحامي
الأول للحراك الشعبي، وذلك ردا على من يتهمها بأنها ترفض تنفيذ مطالبه".
وفي هذه النقطة، قال
أكرم خريف، الخبير في العلاقات الأمنية، إن الجزائر كغيرها من الدول، تحتاج عدوا
دائما تبرر به سياساتها مع مواطنيها، وهو ما تحتاجه أيضا فرنسا والدول المتقدمة
لتبرير ميزانيات وزارة الدفاع والخارجية.
وأوضح خريف في تصريح
لـ"عربي21"، أن السياسة الداخلية الجزائرية أثرت بشكل كبير على علاقات
البلاد الدولية في الفترة الأخيرة، "فلأجل إرضاء تيارات معينة، تم اعتماد
لهجات غير مفهومة مع الخارج".
وما زاد في الفجوة
بين الجزائر وفرنسا، حسب الخبير، هو الاختلاف الكبير في المفاهيم واللغة المستعملة
في البلدين، ما أدى إلى تكرار التوترات في الفترة الأخيرة، لكن دون الوصول،
حسبه، إلى الحديث عن وجود علاقات سيئة بين
البلدين.
ولأن الاقتصاد هو
اللغة الأكثر واقعية لقياس العلاقة بين البلدين، لا تشير أرقام المبادلات في سنة 2019 التي بلغ التوتر فيها أوجه بين البلدين، إلى
تضرر المصالح الفرنسية، فقد بقيت فرنسا ثاني مصدر للجزائر بـ4.7 مليار دولار بعد
الصين، وأول زبون للجزائر بما قيمته 5 مليار دولار في نفس السنة.
لغة الاقتصاد
والملاحظ وفق حفيظ
صواليلي رئيس القسم الاقتصادي لجريدة "الخبر" الجزائرية، أن ثمة توجها لتقليص دائرة
المزايا التي كانت تستفيد منها الشركات الفرنسية، فمثلا يرتقب عدم تجديد عقود
التسيير التي كانت تشرف عليها شركات فرنسية، لمؤسسات جزائرية استراتيجية مثل مطار الجزائر
الدولي وميتر الجزائر وشبكات المياه.
وذكر صواليلي في تصريح لـ"عربي21"، أنه تم
تسجيل مواقف على غرار الاعتراضات و التلويح بحق الشفعة في صفقة استحواذ توتال على
حقول نفط جزائرية، وهو ما دفع الشركة الفرنسية إلى الانسحاب من الصفقة.
لكن بالمقابل، يقول
صواليلي، إنه لا ينتظر حدوث قطيعة كاملة، فهناك شبكة وحجم مصالح مترابطة يصعب
تفكيكها بسهولة، فما تبرزه الأرقام نسبيا هو أن المعادلة لم تتغير كثيرا لأن
فرنسا، بعد الربع الأول من السنة، تبقى أهم شريك تجاري.
وخلص المتحدث إلى أن
هناك حالة مد و جزر عموما، و لكن التوجه عموما لن يبرز قبل فترة بالنظر إلى أن
الظرف الاقتصادي العام الذي تعيشه البلاد، لا يتيح قراءة دقيقة للخيارات والتوجهات
الاقتصادية للجزائر في ظل ركود اقتصادي ناتج عن انتشار جائحة كورونا وتبعات صدمة
تراجع اسعار النفط فضلا عن الوضع السياسي العام.