بداية أسجل أن وجود الأدوات التنفيذية الشرعية (المقننة) في الدولة يرتبط بعمق بشكل مباشر بأهدافها المستقبلية، فالدولة التي تنظر إلى تمددها الأفقي والعمودي، وتعميق سيادتها وطنيا وإقليميا ودوليا، وصناعة الحضارة، وتأمين ازدهار الأجيال القادمة، يتحتم عليها صناعة القوانين التي تسير بها حيث تبتغي، وعملية التقنين للوصول إلى هذه الأهداف والتطلعات، تكون صناعة نظام الحكم الواثق العادل حائز الشرعية والمشروعية؛ أما الدكتاتور فالقانون لديه ما يخطر بباله (فقط)، لا يكترث لأي رأي، ولا يعرض قانونا على برلمان ولا شعب ولا مجموعة، يخرجه من كمّه بطريقة سحرية، يرهب به مواطنيه.
أما الحديث هنا، فعن قانون استوفى شرائطه الديمقراطية القانونية، لذلك فإن هذا الأمر يسجل لتركيا اليوم، وهو عنوان للواقع والتنظير والتطبيق الذي عنوانه: صناعة مستقبل من باب الشرعية والمشورة.
في جلسة صاخبة، تم يوم الخميس 11 حزيران (يونيو) الجاري إقرار مشروع قانون (حراس الأسواق والأحياء) والذي عرف بقانون الحراس الليليين، والذي حل محل القانون رقم 772 بتاريخ 14 تموز (يوليو) 1966 (تضمن القانون الحالي نصا صريحا على الإلغاء)، ويحمل ذات الاسم؛ وأطلق موقع الأناضول الإلكتروني عليهم تسمية "نسور الليل".
وجاء على الموقع الإلكتروني (sahafatak.net، بتاريخ 18 حزيران/ يونيو 2020م) اعتراضات تركزت على أن القانون منح الحراس الليليين صلاحية استخدام السلاح، مثل أفراد الشرطة.
نظرا لأهمية هذا القانون في مساعدة الدولة على القيام بوظائفها المعتادة في حماية النظام العام بمكوناته الثلاث (الأمن العام، السكينة العامة، والصحة العامة)، فإننا نتناوله بما يقتضيه وضعه الواقعي والسياسي والقانوني، لأنه محط تدخلات وتداخلات على مستوى المكونات السياسية في البلد، وعلى مستوى التشريع (مراحل صناعة القانون) وحسن سير المرافق العامة، وحسن توفير السلطة التنفيذية للمكونات الثلاثة المذكورة أعلاه.
نناقش القانون وفق الموضوعات الثلاث كالآتي:
أولا ـ من حيث الواقع:
الواقع عادة هو السبب الرئيس الدافع للتقدم بمشاريع القوانين، حيث يأتي الضبط من خلال القانون، الأداة الوحيدة الشرعية لقيام الدولة بالحفاظ على مكوناتها المادية والمعنوية، والواقع في تركيا، يتضمن ملامح فيها من الخطورة ما يحتم بذل الجهود لتأمين الأمن العام والصحة العامة والسكينة العام، ومن ملامح الواقع:
ـ كبر عدد السكان الذي يفوق 80 مليون نسمة، ما يشكل تأمين أمنهم وأمانهم وصحتهم العامة عبئا كبيرا لنظام يريد التعامل معهم من بوابة القانون الشفافة، ولا يقال إن هناك دولا تفوق تركيا عددا ولا يشرعون هكذا تشريع، لأن الجواب هو انظر إلى أمريكا التي لا يأمن المواطن على نفسه وماله، وما حال أمريكا وأخبارها بخاف على أحد.
ـ عدد المهاجرين فاق 5 مليون مهاجر، هذا يعني 5 مليون شخص لديهم طبائع مختلفة وأحوال مادية ونفسية غير مستقرة، وكل ذلك ينعكس على محل إقامتهم وما فيه من عناصر بشرية وغيرها.
إن لهذا العدد أثره البالغ على مكونات النظام العام الثلاث، والتعامل معهم تستلزم الأداة القانونية (الرادعة)، خاصة أن الإفراز الإجرامي لهم غير قليل.
إن قانون الحراس الليليين، إذا تم تطبيقه وفق المهام والصلاحيات الواردة فيه، وأرى أنه سيكون كذلك، فإنه يعد إضافة حقيقة ذات قيمة أمنية عالية، تسجل لتركيا بكل مكوناتها فخرا واقتداء لغيرها من الدول.
ـ اسطنبول من المدن الكبيرة سكانا والكبيرة مساحة، فسكانها يزيدون على 15 مليون نسمة، ومساحتها تقارب (5.500 كم/2)، وتتنوع أحياؤها بين ما يمكن الوصول إليه بسهولة، وبين مناطق معتمة أمنيا، يصعب وصول الشرطة إليها في وقت الحاجة، حالها حال المدن الكبيرة في العالم.
ـ تنوع مكونات الأتراك القبلية، ولكل مجموعة خصائصها وعاداتها وتقاليدها، وهذه المكونات مسيسة في غالبيتها، وامتداداتها في الدول يؤثر سلبا وايجابا على تعاملهم مع السلطة العامة، وهذا الحال منتشر في جميع الدول، ولكنه يشكل ضغطا على السلطات العامة، لأنها غالبا ما تشكل جيوبا داخل المدن ذات ملامح غير مريحة، ما يحتم اختراع طرق تعامل مناسبة لبسط سلطان الدولة.
ثانيا ـ من حيث السياسة:
شخصيا أؤمن أن السياسة تصنع القانون، وأؤمن أكثر أن صناعة القانون يجب أن لا تكون محل صراع سياسي، بل يجب أن يكون القانون فوق الطموح السياسي، وهذا الأمر لا يعني عدم مناقشة صناعة القانون موضوعا وإجراء، ولا يعني أن يمتنع القانون من الطعن بعدم الدستورية، ولكن الأمر الأكيد أنه يجب أن تكون مصلحة الوطن هي المحكم.
الأوضاع العامة في تركيا كبلد يخطو نحو المستقبل بثقة واقتدار، محط حسد غالبية دول العالم، وطبيعة السياسة في الدول، تقوم على حسد الذي يرتفع ويرتقي، وتبقى وحدة الداخل وتماسكه حارس الارتقاء والعلو والانتشار، وحماية مكوناته من قبل كل الأطراف.
اليقين الحزبي يجب أن يبنى على التكامل بين الجميع، وأن السياسة الحزبية يجب أن لا تخرج عن دعم أي حزب يبني، بل يجب أن تخضع لمجمل الاستراتيجية للوطن، وأن تداول السلطة بين الأحزاب حتمي ولو بعد حين، فما يتم بناؤه باسم حزب هو بناء وانعكاس للجميع، تستفيد من المجموعات الحزبية حالا ومستقبلا.
ثالثا ـ من حيث القانون:
بناء على مشروع قانون تقدم به نواب حزب العدالة والتنمية إلى أعضاء البرلمان التركي، أقر البرلمان يوم الخميس 11 حزيران (يونيو) 2020 "قانون حراس الأسواق والأحياء"، الذي حل محل القانون القديم ذي الرقم 772 الصادر بتاريخ 14/7/1966.
نتناول الملامح العامة للقانون الجديد، ثم نعلق عليه بعده:
ـ الغرض: بينت المادة (2) الغرض من تعيين حراس الأسواق والأحياء: من أجل مساعدة الضباط المسؤولين عن تطبيق القانون، يتم توظيف حراس الأسواق والأحياء كقوة تنفيذ مسلحة داخل الشرطة ومنظمات الدرك.
ـ شروط التعيين: نصت عليها المادة (3):
"المادة 3 ـ (1) تنطبق عليهم الشروط العامة الواردة في المادة 48 من قانون الخدمة المدنية رقم 657 تاريخ 14/7/1965 والشروط الخاصة مثل التعليم والعمر والصحة والكفاءة البدنية التي تحددها وزارة الداخلية.
(2) النجاح في امتحان القبول المقرر إجراؤه وفقًا للإجراءات والمبادئ التي وضعتها وزارة الداخلية".
هذا يعني أنه يجب أن يحوزوا الشروط العامة الواجبة لولوج الوظيفة العامة، مثلهم مثل أفراد الشرطة والموظفين الآخرين، لحسن أداء الوظيفة.
ـ الملامح العامة لواجباتهم: تم ذكر العديد من الواجبات في المواد (5 ـ 9)، نأخذ بعضا منها هنا:
تأمين وضمان: الراحة والصحة والرفاه للناس داخل حدود صلاحيتهم.
مساعدة: المرضى، النساء، الأطفال (خاصة ضحايا العنف)، حالات الولادة أو الوفاة أو المرض أو الحريق أو الكوارث، أو حيوانات خطيرة.
حماية وتامين: المساكن وأماكن العمل والمركبات، التعامل مع الحالات المشبوهة، تأمين انسيابية حركة المرور، وتأمين الأدلة
في حال ارتكاب جرائم لحين وصول جهات الاختصاص، ....
الرقابة: طلب الهوية، والاستفسار حال الظروف التي تجلب الشبهة، التوقيف في حالات محددة، مراقبة الاشخاص الذين يمكن أن يتسببوا بضرر لأنفسهم أو لغيرهم.
الوقاية: منع ارتكاب الجرائم والجنح، التعرف على الأشخاص الصادر بحقهم أوامر اعتقال أو جلبهم قسرا، منع الخطر الحالي أو المحتمل، ...........
أعمال قضائية: إجراءات متعلقة بالجرائم المشهودة (حالة التلبس) وفق ما يتطلبه قانون الإجراءات الجنائية، الحفاظ على الأدلة الجرمية، تحديد هوية شهود الحوادث، ..... .
حمل السلاح: خول هذا القانون الحراس حمل السلاح واستخدامه وفق الضوابط القانونية المنصوص عليها في المادة (16) من الشرطة رقم 2559 بتاريخ 4/7/1934م.
منعت المادة (11) الحراس من العمل بوظيفة أخرى.
والمادة (12) بينت ساعات العمل: "وقت العمل الأسبوعي لحراس الأسواق والأحياء (40) أربعين ساعة. وفي الحالات التي تتطلب السلامة والأمن، يمكن زيادة هذه الفترة شريطة أن يتم إعطاء الراحة مرة واحدة في الأسبوع".
التعليق:
1 ـ عملية إقرار القانون تم السير بها وفق ما يقتضيه الدستور، حزب تقدم بمشروع قانون، طرح للتصويت، فاز بالنتيجة.
2 ـ طالما أن القانون فاز وفق الضوابط الشرعية، فالأصل أن يقبل به جميع الفرقاء، لأن القانون الفائز يمثل الجميع لا الفريق الذي تقدم به.
3 ـ يبقى حق الطعن الدستوري قائما ضمن إطار احترام متبادل، وبخلاف ذلك تتولد حالة صراع وتصدع يضر ولا ينفع، يفرق ولا يجمع، والبشرية اليوم بحاجة إلى النفع والتجمع، وتركيا بالذات أحوج من غيرها.
4 ـ هذا القانون وما جاء به من أحكام منصوص عليها في جميع قوانين الإجراءات الجنائية لدول العالم، وتأتي ضمن ما يسمى (بالضابطة العدلية)، وتختلف فقط المسميات: فمنها ما يطلق عليه النواطير، ومنها ما يطلق عليه المخاتير، وهنا حراس الأسواق والأحياء، وأسماء أخرى وفق مسميات كل بلد.
5 ـ حراس الغابات، ورجال الجمارك مسلحون والقانون يكلفهم بأعمال ملاحقة ورصد ورقابة وتفتيش واعتقال واطلاق النار، بل لديهم أيضا ادعاء عام يثبت الجرائم ويترافع أمام القضاء الجنائي العادي، وموجودون في غالبية دول العالم دون اعتراض من جهة أو حزب أو جماعة، وهذا القانون لا يختلف عنها موضوعا ولا إجراء.
6 ـ ما في هذا القانون ليس بدعا من الأمر، بل هو تعديل على القانون القديم ولكن بصورة قانون جديد، وزيادة في المهام والمسؤوليات والسلطات، وكل ذلك وفق الضوابط الموضوعية والإجرائية المنصوص عليها في القوانين ذات العلاقة في الدولة.
7 ـ هذا القانون ولد نتيجة حاجات فعلية وضرورية، واشترك في إخراجه العديد من المسببات والدراسات المنبثقة من واقع اجتماعي وجنائي وقضائي، لذلك يبقى محط اهتمام ومتابعة وتقييم وتقويم وصولا به إلى اعتباره مكسبا للجميع ونصرا للشرعية وللحنكة السياسية العامة، وحاميا لمجمل أهداف السياسة التشريعية.
في النتيجة، فإن قانون الحراس الليليين، إذا تم تطبيقه وفق المهام والصلاحيات الواردة فيه، وأرى أنه سيكون كذلك، فإنه يعد إضافة حقيقة ذات قيمة أمنية عالية، تسجل لتركيا بكل مكوناتها فخرا واقتداء لغيرها من الدول.