اعتاد نقاد الأدب تصديرَ نقدهم بمقولة: (رفض محاكمة الخيال بناء على معطيات الواقع)، وذلك بحجة استقلالية الإبداع عن أرضيته التاريخية؛ أي أنّ الإبداع لا يُحاكم بما هو حقيقي، ولا يُقارن بالنص التاريخي. ولكن إذا انحرفنا قليلاً عن جادة النّقد الأدبي وحاولنا الالتفاف ثقافياً حول النّص نستطيع الولوج إلى النّص المتخيّل عن طريق عدة أسئلة من قرين: ما الذي يجعل القبيح جميلاً في عين المبدع/الصانع للنص؟ وما الذي يدفع المتلقي للحقيقة التاريخية إلى تحويرها والتلاعب بها وإعادة إخراجها في صورة أدبية مُجمَّلة؟
ولتقريب الفكرة أكثر وكي لا نبتعد عن موضوع المقال سنطرح قضية تغريبة بني هلال كمثال تطبيقي يحمل وجهين متناقضين تاريخياً وخياليا؛ فالمسار التاريخي لبني هلال مسار أسود تخريبي دمرَ حضارة القيروان وأعادها إلى العصور البدائية، مسار السلب والنهب- العقاب الذي أنزله الحاكم الفاطمي بتونس بسبب عصيان حاكمها. يقابله المسار التخييلي المتمثل في (تغريبة بني هلال) الذي يرسم لنا صورة مشرقة (يتعاطف معها الراوي والمتلقي)، صورة النخوة والبطولة وإجارة اليتيم ونصرته.
وانطلاقاً من الأسئلة السابقة، وبناءً على المسارين المذكورين سنسأل بصيغة أعم وأشمل: إلى أي مدى ينجح النّص المتخيّل في قلب الحقيقة وتقديم حقيقته الجمالية الخاصة؟ وإذا قمنا بعملية مسح للنّص المتخيّل فهل سنجد ما يؤيّد ويدعم النّص التاريخي؟ وفي ما يخص بني هلال، هل سنجد في التغريبة ما يخالف اتجاهات الراوي على شكل أحداث متخيّلة لم ينجح الراوي في تجميلها أو أنها أفلتت منه أو أن أحد الرواة المتعاقبين على التغريبة قد قام بتسريبها؟
وكي لا نطيل التساؤل، فنغرق في بحر التكهنات، سنقوم باتباع طريقة معاكسة في قراءة نص التغريبة(1) (أي معاكسة قصدية الراوي: فنسكت عما قاله الراوي ونحاول استنطاق ما سكت عنه): ففي قصة الدبيسي -على سبيل المثال- سنتأمّل بداية القصة ونهايتها ونهمل متن الأحداث التي بينهما؛ فالدبيسي أكرم أبا زيد ورفاقه عندما زاروه بصفتهم شعراء حجازية (أكرمهم غاية الإكرام /ص10) وعند قدوم بني هلال إلى أرض الدبيسي والتقاء الجيشين نجد الدبيسي يبرز للقتال قائلاً: (لا يبرز لي إلا أبو زيد صاحب المكر والكيد الذي أتى إلينا واحتال علينا /ص31).
وللوهلة الأولى نجد أنها إشارة واضحة (ربما من أحد رواة السيرة) إلى ما فعله أبوزيد من غدر. وفيها غمز مجازي إلى المسار التاريخي، ويؤكد ذلك ما فعله الهلاليون _في التغريبة_ بمدينة الدبيسي بعد قتله وهروب جيشه :( ... ودخلوا المدينة وراءهم وضربوا فيهم بالسيف حتى جرت الدماء في الأسواق وبليت قوم الدبيسي بما لا يطاق، وعلا بينهم الصياح والبكاء والنواح /ص31).
وإن كان الراوي يحاول إظهار بني هلال في صورة العربي الذي يغار على شرفه ويشكّل حفظ العرض والنساء لديه أغلى مقدس فإننا نجد عند الراوي عدة فلتات خاصة في قصة الخفاجي عامر حاكم بلاد العراق الذي يترك أهله ويلتحق بجموع بني هلال؛ فبعد الصلح الذي تم بين الخفاجي والأمير حسن (سلطان بني هلال) نرى نساء بني هلال وعذراواتهم يظهرن بمظهر مغاير لما رسمه الراوي لهن في الوليمة التي أقامها الخفاجي لبني هلال: (كانت البنات والنساء الحراير يشربن على اسم الخفاجي عامر) و( وكانت الجازية بديعة الجمال فصيحة المقال تقدمت إلى الخفاجي تصف له محاسن بنات بني هلال وما خصهن الله من اللطف والكمال والظرف والجمال.../ص46)... وهي إشارة أخرى إلى أنّ الهلاليين استخدموا حرائرهم لإغراء الخفاجي بالسفر معهم والالتحاق بركبهم مما يناقض الصورة المرسومة.
وحين يحاول الراوي على طول الخط السردي إضفاء صورة المظلوم إلى الوجه الهلالي فإن التغريبة تحمل بين ثناياها ما يهدم الصورة المنشودة ويحاول معاكستها، فعلى سبيل المثال في قصة "الملك التمرلنك" نجد الوزير اسكندر يسأل التجار عن بني هلال، فيقول له كبيرهم: (قد قتلوا الملوك وخربوا الكوفة وقتلوا الوزير وابن عمه ورفقته وكل الفوارس، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء وهم راحلين إلى الغرب /ص48). وهنا يجب تحديد موقفنا من هذه الفلتات الأخلاقية في تغريبة بني هلال؛ هل هي بسبب فشل الراوي (فشلاً جزئياً) في تجميل الصورة الهلالية؟ أو أنّ الراوي تقصّد تسريبها (الفلتات) لسبب أو آخر؟
إن هذا السؤال (بفرعيه) تجيب عليه الطبيعة التي تم بها تناقل التغريبة وهي الرواية الشفاهية حيث إن تدوين التغريبة جاء متأخرا(2)، فلو كان الراوي الأول قد فشلَ في تجميل الصورة فإن الراوي التالي (والذي يليه وهكذا دواليك) سينجح في المهمة التي فشل الراوي السابق في تحقيقها. والفرضية الثانية يدحضها إعجاب الرواة الشديد ببني هلال إذ إنّهم ينسبون أنفسهم لبني هلال وينسبون بني هلال لآل البيت والرسول(صلى الله عليه وسلم)، ولو كان أحد الرواة قد حرّف شيئا لقابله تحريف إيجابي.
وبما أنّ الفرضيتين توشكان على السقوط، فإننا سندعم موقفنا بفرضية أقوى وهي أن العقل المنتج للنّص الهلالي المتخيّل هو عقل هلالي أيضاً؛ فمن المعروف أن قبائل بني هلال لم تنقرض بل هي موجودة إلى اليوم، بعضهم اختلط بالبربر وبعضهم الآخر حافظ على عروبته، إذ توجد قبائل عربيّة ما زالت تنتسب إلى بني هلال في مصر وبلاد المغرب العربي، ومن الطبيعي أن ينشأ النّص الهلالي في مجتمعه. وقد يقول قائل إن هذه الفرضية هي أضعف الفرضيات وإن كان الآخر لم يقع في هذه الجروح الأخلاقية (في التغريبة) فكيف يقع فيها الهلالي؟!
وللحِجَاج في هذا الأمر يلزمنا أن نشير إلى مسألة جوهرية، وهي كون قبائل بني هلال قبائل أعرابية؛ أي أن العقل الهلالي عقل أعرابي يقوم على ثنائية (النهب _الوهب)، فالأعرابي (والأعراب هم الأقوام المرتحلة الموغلة في الصحراء ولا نقصد بهم جميع العرب). فهي عقلية ترفض الإنتاج وتحتقر الحضارة والتمدن، والأعرابي يبحث عن أي وسيلة يظهر بها قوته وسيطرته؛ فإذا كانت القوة والسيطرة تظهران بالتخريب والغزو وإهانة الآخر كان (سلوك النهب) ومثال ذلك الأمثلة التي سبق لنا التنويه بها، وإذا كانت القوة والسيطرة تظهران بالكرم والنخوة وإجارة اليتيم كان (سلوك الوهب)(3)، ومثال ذلك الصورة المشرقة لبني هلال التي شكلت أغلب صفحات التغريبة. وإذا كان النّص المتخيّل قد ركّز على جانب (سلوك الوهب) فإن ذلك عائد إلى الهدف من التغريبة وهو تجميل صورة الذات.
وللغوص عميقاً في العقلية الأعرابية المنتجة للتغريبة سنحفر عمودياً في الأنا الهلالية التي تظهر جلياً في جدلية (الفحولة والخنوثة)؛ فالهلالي لا يظهر إلا معشوقاً من نساء الآخر وتجد الحرائر والجميلات يرتمين عند أقدامه، فهذه سعدى ابنة الزناتي خليفة تعشق مرعي ابن الأمير حسن من خلال الوصف قبل أن تراه ؛ فهو أجمل الشبان وأكثرهم فروسية، بل إنها تخون أباها وتقحم أهالي تونس في الهلاك والدمار من أجل عيون مرعي الأسير لدى أبيها، وأكثر من ذلك فإنها تدفع بالزناتي إلى الموت كي تفوز بلقاء حبيبها. وهذه أختها بسمة تنظر من فوق سور تونس فترى الأمير عقيل الذي جاء لقتل أبيها ونهب تونس؛ فتقع في حبه ويملك فؤادها.
وفي مقابل ذلك فالمرأة الهلالية لا يميل قلبها إلى الآخر ولا ترى فيه رجلاً يُعتد بفحولته، بل لا ترى رجالاً إلا في أبناء قبيلتها؛ فهذه الجازية ترفض الزواج من الملك "الماضي بن مقرب" وفاءً لزوجها، وحينما يتنازل عنها زوجها للماضي فإنها تمكث عنده في حزن وبكاء حتى يملّها ويُلحقها بأهلها. في حين نجد الجازية تعرض نفسها على أبي زيد الهلالي وترتمي عند قدميه_يرفضها وفاءً لزوجته_ وتنسى هي وينسى أبوزيد وينسى الحاضرون الجلسة وينسى الراوي نفسه أنها متزوجة ولديها أولاد!. وهذا الإعجاب بفوارس بني هلال لا يتوقف على النساء والجميلات بل يطال الخيل أيضًا؛ فالخضرة فرس "دياب بن غانم" ترفض أن يركبها أحد غير فارسها فنجدها ترمي الملك "الماضي" عن ظهرها. وإن كانت التغريبة تقدم عدو بني هلال في كل محطة من محطات التغريبة على أنه فارس همام لا يوجد مثله بين الفرسان فإن هذا الإنصاف يصب في صالح الأنا الهلالية؛ فهذا الفارس الذي لا يشق له غبار سيهزمه فارس من فوارس بني هلال مما يزيد في رصيد الفحولة لدى هذه الأنا.
وفي الختام ، أكاد أجرؤ على القول إن تغريبة بني هلال (النّص المتخيّل) هي الوجه الآخر للعُملة الهلالية ، في حين يشكل النّص التاريخي الوجه الأول للعُملة ذاتها!
المصادر:
(1)- اعتمدنا في هذا المقال على نسخة مؤسسة المعارف /بيروت، وجاء عنوان الكتاب : ( تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب / قصة أبوزيد الهلالي كاملة).
(2)- هناك نسخة عنوانها (السيرة الهلالية ) مكتوبة باللهجة العامية المصرية تم تدوينها عام 2005م وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة الثقافة الشعبية/رقم2) جمع وتدوين وتوثيق :أحمد بهي الدين العسّاسي .
(3)- راجع د.علي الوردي، الأخلاق (الضائع من الموارد الخلقية)، دار الوراق، ط2 ، 2009م.
رواية "أرض السودان" لتاج السر.. المصالحة بين الشمال والجنوب