في عام 1865 ألغيت العبودية رسمياً في الولايات المتحدة عبر التعديل الثالث عشر في الدستور، لكن هذا التعديل استثنى بعض الفئات من بينها المجرمون، وهو ما مثل ثغرةً قانونيةً سمحت بإعادة إنتاج الاستغلال بطرق مغلفة بالقانون.
كان هناك أربعة ملايين أفريقي يمثلون ثلث سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت، ويعدون قوةً عاملةً، وبذلك مثلت العبودية نظاماً اقتصادياً، فلما أصبح هؤلاء الملايين أحراراً بعد الحرب الأهلية ثار نقاش في أوساط البيض: كيف يمكن إعادة بناء الاقتصاد؟
يرى الباحثون المناصرون للأمريكيين الأفارقة أنه تم استغلال الثغرة القانونية في التعديل الدستوري، فكانت تجري عمليات اعتقال جماعية بحق الأمريكيين الأفارقة لأسباب تافهة، مثل التسكع، ويتم تجريمهم، وهو ما يعني إجبارهم على العمل لإعادة بناء الاقتصاد.
كان الإعلام والسينما الأمريكية يغذيان صورةً نمطيةً سلبيةً عن
السود، ويتم تصويرهم بأنهم متوحشون ومغتصبون، مثل الفيلم الشهير "ولادة أمة" الذي أنتج عام 1915 والذي يصفه ناقدون بأنه أحد أكثر الأعمال السينمائية عنصريةً في تاريخ أمريكا. كان هذا الفيلم السينمائي يرسل رسالةً ضمنيةً تعزز الخوف من تحرير السود، وتصورهم بأنهم خطر على النساء من البيض.
قادت التغذية
العنصرية إلى قتل آلاف السود على أيدي جمهور البيض، ومن الحوادث المشهورة جريمة قتل صبي أسود اسمه إيميت تل عام 1954 بسبب مزحه مع سيدة بيضاء، وهي حادثة عززت توجه الأمريكيين الأفارقة إلى تأسيس حركة الحقوق المدنية.
إلغاء العبودية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم يعن إلغاء التمييز العنصري، فقد تم سن العديد من القوانين التي تفصل بين السود والبيض بالقانون، وعرفت باسم قوانين جيم كرو.
شملت قوانين جيم كرو الفصل بين السود والبيض في المدارس الحكومية، والأماكن العامة، والمواصلات العامة والمطاعم، والفصل في المراحيض العامة، وقد استمرت هذه القوانين حتى تم إلغاؤها في ستينيات القرن العشرين.
تعد روزا باركس الأمريكية الأفريقية اسماً مهماً في النضال ضد التمييز العنصري. في عام 1955 كانت تبلغ من العمر 42 عاماً حين طلب منها سائق الحافلة العمومية التّخلي عن مقعدها لراكب أبيض، لكنها رفضت وأجابته: "لا أعتقد أنه يجب علي القيام"، فاستدعى الشرطة ثم قُدمت إلى المحكمة التي أدانتها بتهمة السلوك غير المنضبط وقامت بتغريمها. رفضت روزا باركس الحكم وطعنت في شرعية الفصل العنصري.
كتبت في سيرتها الذاتية: "يقول النّاس دائماً إنني لم أتخلّ عن مقعدي لأنني كنت متعبة لكن هذا غير صحيح، لم أكن متعبةً جسديّاً. لقد كنت متعبةً من الاستسلام".
ألهمت روزا باركس حركة النضال من أجل الحقوق المدنية، ونظمت على إثر موقفها البطولي حملة لمقاطعة الحافلات في مدينة مونتغمري من أجل حصول كل الأفراد على
المساواة في حقوق ركوب الحافلات من كل النّواحي الممكنة، واستمرت تلك الحملة 381 يوماً.
في تلك الأجواء ظهر مارتن لوثر كينغ المشبع بروح المسيح وكانت لأقواله جاذبية روحية، ومنها: "لست فقط محاسباً على ما تقول، أنت محاسب أيضاً على ما لم تقل حين كان ينبغي أن تقول"، وقوله: "لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنياً"، وقوله: "الظلم في مكان ما يمثل تهديدا للعدل في كل مكان".
قاد مارتن لوثر كينغ مسيرةً شارك فيها حوالي ربع مليون أمريكي إلى العاصمة واشنطن في آب/ أغسطس عام 1963، وبالقرب من البيت الأبيض ألقى خطابه التاريخي الشهير: "لدي حلم". وكان مما ذكر في ذلك الموقف: "إنني أحلم اليوم بأن أطفالي الأربعة سيعيشون يوما في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم".
مع تزايد الاحتجاجات الشعبية اقترح الرئيس الأمريكي جون كينيدي قانوناً يحظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الأصل القومي، لكن مجلس الشيوخ رفض القانون، ثم أعيد طرحه بعد اغتيال كينيدي وتمت الموافقة على قانون الحقوق المدنية في عام 1964، وهو ما يعني تفكيك قوانين جيم كرو.
لم تتلاش العنصرية، وفي عام 1968 قتل مارتن لوثر كينغ برصاص الحقد العنصري.
لم يكن الأسلوب اللا عنفي الرد الوحيد على العنصرية الممارسة ضد السود، فقد ظهرت في أعقاب اغتيال مالكوم إكس حركة "الفهود السوداء" التي حملت السلاح ودخلت في مواجهات مع الشرطة. وقد كانت هذه الحركة ترى أنه لا يكفي إلغاء القوانين العنصرية، إذ لا يزال الأمريكيون السود يعانون من التهميش وضعف الخدمات في الأحياء الفقيرة التي يتركز فيها السود، وهو ما حرمهم من فرص التعليم الجيد والتمثيل السياسي والعمل في الشرطة، فكان هؤلاء النشطاء يرون أنه لا يكفي الحصول على حقوق مواطنة رسمية وحسب، بل إن السؤال هو كيفية الحصول على سلطة اقتصادية وسياسية.
ومع أن حركة النضال الحقوقي قد أنجزت إلغاء القوانين العنصرية رسمياً، إلا أن التمييز العنصري لا يزال قائماً عبر الثقافة الشعبية العنصرية وعبر ممارسات أجهزة الدولة.
من اللافت للنظر أن الولايات المتحدة تعد أكبر بلد في العالم من حيث نسبة السجناء، إذ يبلغ عدد السجناء حالياً فيها حوالي 2,3 مليون شخص وهو ما يمثل 25 في المئة من سجناء العالم.
تقول منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير أصدرته عام 2018:
"توجد تفاوتات عرقية في كل أجزاء النظام القضائي الأمريكي. يشكل السود 13 في المئة من السكان، لكنهم يشكلون 40 في المئة تقريبا من السجناء، إذ إن معدل سجنهم هو خمسة أضعاف سجن البيض. يستهلك السود المخدرات غير المشروعة بمعدلات مشابهة لما يستهلكه البيض، لكنهم يعانون من معدلات اعتقال أعلى بكثير لحيازة المخدرات".
لعل الدرس المستفاد من تجربة النضال ضد التمييز العنصري في أمريكا هو أن تغيير القانون خطوة مهمة، لكنه ليس كل شيء.
إن الطريق إلى العدالة يكون عبر هدم جدران الاستعلاء في النفوس وتعزيز الشعور بالمساواة الإنسانية، وتقويض أنظمة عدم التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي، ومنح كل الناس فرصاً متساويةً في التعليم والعمل والخدمات.