أهم ما أحيته واقعة
استعادة الجزائر لرفات العشرات من شهدائها ومقاوميها المحفوظة في ما يسمى "متحف الإنسان" في
فرنسا، والذي يتم فيه الاحتفاظ بنحو 18 ألف جمجمة، هو مدى استهانة هذا البلد بحقبته الاستعمارية بحقوق الإنسان، وأن تلك الاستهانة والتنكيل بأجساد الضحايا لم تنته مع انتهاء حقبة فرنسا الاستعمارية، بدليل تباهيها بجرائمها السابقة واحتفاظها برؤوس ضحاياها حتى اليوم.
وبدليل آخر؛ أن النفوذ الفرنسي في مستعمراتها السابقة خاصة في الشمال الأفريقي لم يتوقف حتى الآن، وأن فرنسا لا زالت تتدخل في سياسات العديد من تلك الدول.
ورغم بشاعة السلوك واستهانته بالإنسان المنصوص على احترام كرامته في جميع الأديان السماوية، تتزين الكثير من الكنائس الغربية بجماجم الموتى، مثل كنيسة سيدليك في دولة التشيك التي تتزين برؤوس آلاف من ضحايا الحروب الصليبية، وكذلك معبد الجماجم في مدينة شيرمنا ببولندا وغيرهما.
الدولة العثمانية
ورغم أن مثل هذا
المتحف موجود منذ عقود في فرنسا، إلا إننا لم نسمع أبدا تنديدا ولا إدانة من قبل الدول الأوربية الأخرى (الاستعمارية سابقا) لوجوده، وكأن شعاراتها باحترام حقوق الإنسان حيا وميتا لا تنطبق فقط إلا حينما يكون الشخص المدان مسلما، فيتم حينئذ توظيفها توظيفا سياسيا، تماما كما تفعل تلك الدول مع ما تسميها "مذبحة الأرمن" والتي يراد منها النيل من الدولة التركية.
ولنا أن نتخيل أن الدولة العثمانية هي من مارست هذا الفعل، أو هي من قطعت رؤوس آلاف من ضحاياها من غير المسلمين في أوروبا واستقدمتهم إلى إسطنبول وأنشأت بهم متحفا لا زال مزارا سياحيا، حين إذن كيف سيكون رد فعل العالم الغربي؟
بالقطع كانوا سيتهمون الدولة العثمانية بالوحشية والإرهاب ومعاداة حقوق الإنسان، وأنها لا تقل شناعة وإجراما عن التتار، وأن السلاطين العثمانيين لا يقلّون إجراما وبربرية عن أفعال جنكيز خان وهولاكو وتيمور لينك؛ والأهرامات التي شيدوها من رؤوس الضحايا في كافة البلدان التي اجتاحوها.
وربما حينئذ ستنتقل حالة التحريض على تركيا من الدعوة لحصارها اقتصاديا وسياسيا؛ إلى التدخل فيها عسكريا ثأرا لأرواح الضحايا.
وبالقطع سوف يتم استغلال هذا الفعل العثماني الافتراضي من أجل التشنيع على الدين الإسلامي، وأخذه ذريعة لتأكيد أنه دين يتسم بالإرهاب والعنف والدم، وأنه انتشر بحد السيف.
الهجوم على الإسلام
والواقع أن هناك من يردد عن الإسلام نفسه هذه الاتهامات فعليا دون أن يقدم بيّنة على ادعائه، فمعظم ضحايا الإرهاب في العالم اليوم هم من المسلمين، ومعظم الضحايا بالأمس هم أيضا من المسلمين، وهم من ارتُكبت ضدهم المذابح المروعة الموثقة في
التاريخ، وهم من استُعمروا ونُهبت ثروات بلادهم، واستُعبدوا وبيعوا كرقيق.
وإن أوروبا وأمريكا، وليست إسطنبول ولا القدس أو مكة، هما من كانتا تميزان بين الناس بسبب بشرتهم أو دينهم، فتعطيان أحدهم الحق في أن يستعبد الآخر وأن يستحل عرضه وماله ونفسه بمباركة تامة من الدولة، وأحيانا من الجهات الدينية نفسها.
الحريات العثمانية
كان أحد رؤساء بلدية إسطنبول يسير في الشارع، فلفت انتباهه وجود حمار مربوط ومحمل بأثقال كبيرة لا يقدر على حملها، فاقترب منه وقام بإنزال الأحمال منه وأمر بالبحث عن صاحبه، فوجده يدخن التبغ في حانة قريبة، فأمر بعقابه، ثم تم سن لوائح للرفق بالحيوان.. هذه قصة حدثت في ظل الدولة العثمانية تجاه حيوان، فما بالك لو كان الأمر يتعلق بالإنسان؟
ورغم أن الدولة العثمانية عانت من حروب مستمرة من قبل الإمبراطوريات الغربية المختلفة عنها دينيا، إلا أنها خصّت المسيحيين داخلها بالعديد من الامتيازات السياسية والتجارية، حتى أنها سمحت للمسيحيين الأرمن ببناء كنائسهم داخل الأستانة، في الوقت الذي كانت الدولة البيزنطية من قبل تمنعهم من ذلك بزعم أنهم "هراطقة".
وفي ذروة المد الاستعماري الغربي وما أحاط به من ممارسات تحط من كرامة الإنسان المختلف، ألغى السلطان العثماني محمود الثاني تجارة الرقيق الأبيض في أوائل القرن التاسع عشر، فتحرر جميع العبيد من يونانيين وجورجيين وأرمن وشركس، وأصبحوا مواطنين عثمانيين يتمتعون بسائر الحقوق التي يتمتع بها الأحرار.
وبالقطع كانت للدولة العثمانية أخطاء، شأنها شأن كل الإمبراطوريات القائمة آنذاك، ولكنها أبدا لم تلج في الحط من كرامة الإنسان بسبب اختلاف في الدين والمعتقد، حيا أو ميتا.
المدهش أن فرنسا صاحبة متحف "الإنسان" الذي ينتهك كرامة الإنسان؛ حاول الإعلام الغربي والمحلي العربي المضلل تقديمها كدولة مؤسسة لمبادئ حقوق الإنسان الحديثة.
فوجدنا من يتناسى مئات الألوف من ضحايا
الحملة الفرنسية على مصر والشرق العربي ويصفها بالحملة التنويرية، ومن يهلل لإعادة تنصيب تمثال ديلسبس فوق قناة السويس التي استشهد فيها قرابة المئة ألف مصري جوعا.