ينقسم الروائيون العالميون من أصحاب الشهرة الواسعة إلى صنفين: صنف يكرر نفسه في رواياته من أجل إرضاء القارئ، وهذا الصنف يكفي أن تقرأ له رواية واحدة، لأنه استطاع في إحدى رواياته أن يصل إلى الخلطة التي تنال إعجاب القارئ وأصبح يكررها في كل أعماله، فهو لا يضيف جديدًا في أعماله بل يغيّر فقط في الأسماء والمواقع والأحداث، في حين يبقى هيكل الرواية وروحها هما ذاتهما في كل رواية، وأبرز مثال على هذا الصنف من الكتّاب الروائي البرازيلي باولو كويلو الذي تحمل رواياته نسقًا واحدًا يقوم على رغبة الكاتب بعدم خذلان رغبات قرائه، لذلك نجده يقدم لهم نهايات سعيدة في الصفحة الأخيرة من الرواية.
أمّا
الصنف الآخر، فهو الذي يمتلك قدرة على التنوّع وتقديم تجارب مختلفة، ولا تغني قراءة عمل له عن بقية الأعمال الأخرى، ومن
الأمثلة على ذلك الروائي الكولومبي ماركيز، فإذا استعرضنا ثلاث روايات من أعماله،
مثل (مئة عام من العزلة) و(الحب في زمن الكوليرا) و(قصة موت معلن)، فإننا سنجد
أنفسنا كل مرة أمام تجربة مختلفة ومميزة عن الأخرى.
خطر لي هذا التصنيف وأنا أقرأ رواية "نادي
السيارات" للروائي المصري علاء الأسواني، وكنت قبلها قد قرأت له روايتيه
"عمارة يعقوبيان" و"شيكاجو"، ووجدت أنه قام في رواية "شيكاجو"
بتكرار النسق الذي قامت عليه روايته السابقة التي حققت نجاحًا جماهيريًا منقطع
النظير عربيًا من حيث المبيعات وعدد الطبعات عدا عن النسخ المزوّرة. ووجدت أنه قد فعلَ
الشيء ذاته في رواية "نادي السيارات"، وبهذا يكون الأسواني قد حدد مكانه
بين صفوف الصنف الأوّل.
فجميع روايات الأسواني التي كتبها بعد أن حقق الشهرة
تقوم على تقنية التقطيع السينمائي، فالكاتب يقطع السرد في اللحظات الحاسمة والمشوّقة،
لينتقل إلى مشاهد روائية أخرى، فيترك القارئ في حيرة من أمره وفي شوق لمعرفة
الأحداث اللاحقة، ليجد نفسه يلهث وراء الصفحات طالبًا المزيد وشاعرًا بمتعة كبيرة.
ففي أحد مشاهد الرواية،
على سبيل المثال، يتشاجر سعيد مع شقيقه
كامل عبدالعزيز همام – الطالب في كلية الحقوق والناشط ضد الاستعمار وإحدى الشخصيات
الرئيسة في الرواية- ويطلب منه التوقف عن
توزيع المنشورات. وعندما يرتفع صوتهما تدخل الأم عليهما، فيهمس كامل في أذن أخيه :(
لو قلتَ لأمي كلمة واحدة عن المنشورات سأخبرها بما تفعله فوق السطح). ويقفل الكاتب
المشهد عند هذا الحد، متلاعباً بمشاعر القارئ الذي لا يعرف ما يفعله سعيد فوق
السطح، وينتقل إلى عرض عدة مشاهد أخرى من الرواية التي تدور أحداثها في العهد
الملكي قبل أن يعود ويطفئ شوق قارئه.
إنّ إصرار
الأسواني على تكرار استخدام هذه التقنية في رواياته يجعل خيارات شخصياته محدودة في
التعبير عن نفسها. ففي حين تنصب موضوعاته على نقد الدكتاتورية فإن القارئ يجد
الكاتبَ أكثر دكتاتورية من السلطة؛ فهو يقف خلف الكواليس ليحشر جميع الشخصيات
خارجاً، ثم يسمح لهم بدخول المسرح تبعا للذي عليه الدور. والشخصية التي عليها
الدور تكون مرسومة بدقة وعناية فائقتين، لا تتصرف ولا تتحرك إلا وفق ما يقرره لها
الكاتب.
وقد حاول الكاتب، في روايتيه الأخيرتين، أن يتجنب هذه الصرامة التي وسمت "عمارة يعقوبيان" فأعطى شخصية ناجي عبد الصمد، في "شيكاجو"، صوتاً ليتكلم بصيغة الأنا، وذلك من خلال المذكرات التي كتبها. لكن هذه الأنا ظلت خاضعة –طوال الرواية- لهيمنة الراوي العليم. ولقد تنبّه الأسواني لهذا الخلل فمنح الحرية لصوتين في "نادي السيارات": هما صوت كامل وصوت شقيقته صالحة.
ولكنه بدلاً من السعي إلى تحرير هذين الصوتين لجأ إلى
حيلة روائية مكشوفة؛ ففي بداية الرواية يظهر صوت الروائي في العمل، ويقرر اعتزال
الناس ويذهب إلى الساحل الشمالي، وفي الشاليه الذي يملكه هناك يبدأ بالقراءة
الأخيرة للرواية، غير أن الشخصيتين الرئيستين (كامل وصالحة) تخرجان إلى الواقع
وتزورانه في الشاليه وتطلبان منه السماح لهما بتعديل الرواية والتعبير عن
مشاعرهما.
وعندما يحتد النقاش بينهما يتركان له قرصا مضغوطاً عليه
التعديل اللازم الذي سيأخذ به نهاية الأمر. ويبدو أن الكاتب ضاق ذرعاً بملاحظات
النّقاد عن صرامته في رسم الشخصيات وعدم منحها الحرية للتعبير عن نفسها، فلجأ إلى
إقحام هذه المقدمة الفجّة ليخدع بها القارئ.
كما يكرر الكاتب في روايته الجديدة المقدمة التاريخية
التي يبدأ بها رواياته السابقة، فيبدأ بالحديث عن تاريخ اختراع السيارة لينتقل إلى
الحديث عن تاريخ نادي السيارات في مصر. وفي كل رواية له يطرح قضية جنسية صاخبة
يربطها بالفقر؛ فالفقر الذي دفع عبد ربه في "عمارة يعقوبيان" إلى ممارسة
الجنس مع حاتم رشيد الصحفي الشاذ، هو الذي دفع محمود عبدالعزيز في "نادي
السيارات" إلى النوم مع النساء العجائز مقابل مبلغ من المال، وكما تاب عبد
ربه نجد محمود يعلن توبته.
غير أن ثمة ما هو إيجابي في رواية "نادي السيارات"؛ فإن خضع السرد فيها لصرامة التقطيع السينمائي فإن لغة الرواية جاءت أكثر مرحاً وبساطة مما هي عليه في أعماله السابقة. فبدا الروائي مالكاً لهذه اللّغة قادرا على تطويعها؛ فهي لغة ساخرة عندما يسخر، وقاسية عندما يتناول القمع والقهر اللذين يقعان على الخدم في نادي السيارات، كما تبدو اللّغة رومانسية عندما تتناول حياة العاشقين. وإن كنا اعتدنا أن يدمر الأسواني أبطاله في رواياته مع إبقاء فسحة ضيقة جدا للأمل، فقد ترك في روايته الجديدة مساحة كبيرة من الأمل تكاد تشمل كل النهايات.
علاء
الأسواني -رغم كل الملاحظات عليه- كاتب
يدفعك إلى احترام تجربته؛ فرواياته تتطلب جهداً مضنياً، بحثاً وتنقيباً، فهو يدرس
الشخصيات ويرسمها بدقة، ويبحث في ماضيها وحاضرها ليعرف كيف تتصرف ويفهم دوافعها
وتطلعاتها. فأنت ستفهم حتما شخصية رئيس الخدم "الكوو" الذي يتصرف كطاغية
مع الخدم والمصريين بلا أدنى رحمة ، ثم ينقلب ذليلا أمام أي أجنبي يصادفه مهما كان
مستواه ومنصبه.
اقرأ أيضا: غسان كنفاني رجل اللغة العارية
كما نجح الأسواني في رسم صورة حية للفساد التي كان يعيشه ملك مصر في الأربعينات من القرن العشرين. وربما سبب نجاحه أنه رسم صورة الملك من خلال أشيائه وتابعيه أكثر مما سلّط الضوء عليه شخصياً. فقد رأيناه من خلال "الكوو" ومساعده حميد. ورأيناه من خلال الإيطالي كارلو بوتشيللي القواد الشخصي لصاحب الجلالة الذي كان يصطاد الجميلات ليحظين بلقب عشيقة الملك. ورأينا مصر من خلال مجتمع نادي السيارات، ومن خلال تناقضات عائلة عبدالعزيز همام. وشخصيات وقصص أخرى لست في صدد حصرها وتلخيصها. كما يلخص الأسواني تاريخ المكان الذي يقدمه لنا، بطريقة ماتعة وغير فجة، دون أن يشعر القارئ أن هذه المعلومة مقحمة أو فائضة عن الحاجة.
ويرسم
أيضًا صورة الصراع الذي كان محتدما في الأربعينات بين مختلف الطبقات في المجتمع؛
بين الملك وابن عمه الأمير شامل، بين جيمس رايت مدير النادي وابنته ميتسي التي
رفضت أن يقدمها والدها إلى فراش الملك. بين العامل الذي يرى أن حقوقه تُحصّل
بالتذلل والعامل الذي يطالب بحقه بصوت عال...الخ.
لقد استغرقت
كتابة "نادي السيارات" خمس سنوات، ومن المعروف عن الكاتب أنه يكتب بشكل منضبط
ومنظم، يخصص أربع ساعات يوميا للكتابة، فهو كاتب يرفض البرج العاجي وينزل إلى
الشارع حيث الناس والحياة. لكن كل ذلك لا يعد مبررًا للتكرار وفرض نسق واحد
لأعماله، وحشرها في فضاء محدود الأفق.
وإذا عدنا إلى فكرة التصنيف التي تطرقنا لها في بداية
المقال، سنجد أنّ الأسواني حدد مكانه بين صفوف الصنف الأول. ولقد انعكس ذلك سلبًا على
رواياته، فأذكر أنني عندما انتهيت من قراءة رواية "قصّة موت معلن" لماركيز
شعرتُ -رغم صغر حجم الرواية- بإحساس إنساني لا يزال يرافقني كلما ذُكرتْ الرواية
أمامي، ولا أنكر أنني شعرت بإحساس مشابه أثناء قراءة رواية الأسواني، ولكن الفرق
بين "قصة موت معلن" و"نادي السيارات" أن الإحساس في الرواية
الأولى ينتقل إليك ويظل يرافقك، أما في رواية الأسواني فإن الإحساس يتوقف فور
الانتهاء من قراءتها أو أنه يظل حبيساً بين دفتيها.