قضايا وآراء

تركيا ونادي الاقتصاديات العشر الأولى عالميا

1300x600
لنتعرف أولا على كيفية معرفة وقياس حجم النشاط الاقتصادي في أي بلد، حيث يعتبر الناتج المحلي الإجمالي (GDP) أحد أهم المؤشرات التقليدية لقياس حجم النشاط الاقتصادي في أي بلد، الذي يُعرف بأنه القيمة النقدية لجميع السلع والخدمات النهائية المنتجة في بلد ما خلال فترة زمنية معينة، وعادة ما تمتد هذه الفترة لسنة واحدة.

وفي العرف الاقتصادي، حاز الناتج المحلي الإجمالي مكانة كبيرة، وفي هذا السياق ترى تيريسا روميرو، الكاتبة في موقع إيلوردين مونديال الإسباني، أن هذا المؤشر أصبح يحظى بنوع من "القداسة" كمؤشر اقتصادي عالمي أو على المستوى المحلي، ويتكرر بشكل مستمر في الخطابات السياسية والنشرات الإخبارية وتقارير المؤسسات المتخصصة والدولية.

وبالرغم من بعض العيوب التي يعاني منها هذا المؤشر، إلا أنه لا يزال من أكثر المؤشرات استخداما في مجال الاقتصاد الكلي والاقتصاد السياسي، وحتى لدى السياسيين.

ولكن هذا المصطلح كثيرا ما يساء فهمه أو يتم استخدامه في غير سياقه. ويمكننا القول بأن مؤشر الناتج المحلي الإجمالي يعبر عن حجم النشاط الاقتصادي للبلد في رقم واحد فقط، ولكنه لا يعبر عن قوة ومتانة الاقتصاد أو حجم الرفاهية الاجتماعية. ويستخدم اتجاه هذا المؤشر للدلالة على الصحة العامة للاقتصاد، حيث إن نموه دليل على خلق مزيد من الثروات والاستثمارات وزيادة التشغيل للموارد الاقتصادية، بينما يحدث العكس في حال انكماشه. بالإضافة لما سبق، يكتسب هذا المؤشر أهمية كبيرة، حيث يتم ربط وقياس الكثير من المؤشرات الاقتصادي الأخرى كنسبة إلى حجم الاقتصاد، أي الناتج المحلي الإجمالي.

خلال شهر حزيران/ يونيو الماضي تحدث الرئيس التركي أردوغان عن قرب دخول بلاده لنادي الاقتصاديات العشر الأولى عالميا، وخصوصا بعد تحقيق معدل نمو اقتصادي 4.5 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي، ونجاح حكومته في إدارة أزمة جائحة كورونا بشكل جيد جدا، مما فتح النقاش حول هذه القضية من جديد من خلال السؤال التالي: هل تركيا فعلا قريبة من الدخول لنادي الاقتصاديات العشر الأولى عالميا؟

في البداية لنوضح حجم الاقتصاد التركي بالنسبة للاقتصاد العالمي خلال السنوات الماضية، حيث تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن متوسط حجم الاقتصاد التركي، بلغ حوالي 0.80 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي خلال الفترة من 1990 إلى 2001، بينما بلغ في عام 2002 حوالي 0.69 في المئة، وهو العام نفسه الذي تسلم فيه حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان مقاليد الحكم في البلاد، واستمرت هذه النسبة في الزيادة حتى بلغت حوالي 1.24 في المئة في عام 2013، وهي أعلى نسبة يصل إليها حجم الاقتصاد التركي كنسبة من الاقتصاد العالمي. وفي المتوسط، بلغت النسبة حوالي 1.05 في المئة خلال 2002-2013، وهي الفترة التي تعتبر طفرة للاقتصاد التركي، بعد العام 2013 بدأت هذه النسبة في التراجع حتى وصلت إلى حوالي 0.86 في المئة في العام 2019، وبلغت في المتوسط حوالي 1.04 في المئة خلال الفترة 2014-2019، حيث شهدت تركيا العديد من الأحداث السياسية والاقتصادية، التي أثرت بشكل واضح على حجم الاقتصاد التركي كنسبة من الاقتصاد العالمي خلال ذات الفترة.

ونتيجة لذلك، تراجع ترتيب الاقتصاد التركي في مجموعة العشرين من المرتبة 17 إلى المرتبة 19 في آخر أربع سنوات، بينما بحسب بيانات الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية تحتل تركيا المرتبة 13 عالميا في 2019، حيث كانت تحتل المرتبة 17 في عام 2000.

وهذا يقودنا للسؤال الحرج: كيف يحدث ذلك؟ (تراجع حجم الاقتصاد التركي على أساس الناتج المحلي الإجمالي الاسمي إلى المرتبة 19 بينما يحتل المرتبة 13 عالميا على أساس تعادل القوة الشرائية). وهو ما أثار استغراب البعض عند حديث الرئيس أردوغان عن قرب دخول بلاده لنادي الاقتصاديات العشر الأولى عالميا، بالرغم من التراجع إلى المرتبة 19 في مجموعة G20.

كما أوضحنا، أن الناتج المحلي الإجمالي يعتبر مؤشرا مناسبا لمعرفة النمو في اقتصاد ما، ولكن عند المقارنة بدول أخرى لها عملات مختلفة، فإن هناك عنصرا جديدا يدخل للمعادلة، ألا وهو سعر صرف العملة، ومدى تأثير سعر الصرف على القوة الشرائية المحلية. ولتصحيح هذا الفارق يتم استخدام ما يسمى بتعادل القوى الشرائية (Purchasing Power Parity). ويتم حساب الفارق في القوة الشرائية للعملات من خلال شراء سلة من السلع والخدمات في الدولة الأولى ومقارنة تكلفة شراء السلة نفسها عند شرائها في دولة ثانية، وبعد ذلك يتم احتساب سعر الصرف (المفترض) الذي يجعل القوة الشرائية متساوية في البلدين.

ومن أجل توضيح فكرة الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية، لنأخذ المثال التالي: بلغ الناتج المحلي الإجمالي لتركيا حوالي 4280 مليار ليرة تركية لعام 2019، ومتوسط سعر الصرف هو 5.67، ومن ثم يبلغ الناتج المحلي حوالي 754 مليار دولار. والآن نفترض أن هناك سلة من السلع والخدمات تعادل 300 دولار في الولايات المتحدة، بينما هذه السلة نفسها تعادل 685 ليرة في تركيا، وعلى فرض أن سعر الصرف اليوم هو 6.85 ليرة لكل دولار، ومن ثم فإن هذه السلة في تركيا سوف تعادل 100 دولار. وعلى فرض أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة هو 21 تريليون دولار بينما لتركيا هو 754 مليار دولار، ووفقا لتكلفة شراء السلة نفسها في البلدين، يمكننا حساب معامل تعادل القوة الشرائية بين البلدين كما يلي: (300 دولار في أمريكا / 100 دولار في تركيا = 3). ووفقا لذلك، فإن الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية لتركيا يساوي حوالي 2.26 ترليون دولار (754 مليار دولار x 3 معامل تعادل القوة الشرائية المفترض). نستنتج مما سبق أن ترتيب الاقتصاد من حيث الحجم يتغير نتيجة للمؤشر المستخدم في القياس، وعند المقارنة بين البلدان المختلفة يدخل عامل جديد للمؤشر، وهو تعادل القوة الشرائية بين البلدان.

ووفقا لذلك، فإن تركيا قد تنجح في الدخول للاقتصاديات العشر الأولى وفقا للناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية، حيث تحتل تركيا حاليا المرتبة 13 عالميا، أما على أساس الناتج المحلي الإجمالي الاسمي فإن تركيا تأتي في المرتبة 19 عالميا، وهي لا زالت بعيدة عن العشر الأولى، ولكي تنجح في تحقيق ذلك فإنها تحتاج لفترة زمنية طويلة نوعاً ما.

ولكي تنجح تركيا في تحقيق ذلك وحتى على أساس تعادل القوة الشرائية، يرى الاقتصادي Emre Alkin أن هناك عدة شروط أهمها: تباطؤ نمو الاقتصاديات التي تسبق تركيا في الترتيب، وتحسن أداء الاقتصاد التركي مع قيمة مضافة عالية، واستقرار سعر صرف الليرة لكي ينمو حجم الاقتصاد التركي بالقيمة الدولارية. ومن أجل تحقيق الشرطين الثاني والثالث على الأقل، يرى أنه لا بد من جذب رأس المال الأجنبي بشكل جاد، وأن هذا لن يحدث من دون القيام بإصلاحات هيكلية، كما يرى أنه في حال لم يتحقق على الأقل شرطان معا من الثلاثة، فإن ذلك لا يبدو ممكنا حتى عام 2030، ووفقا لتعادل القوة الشرائية أيضا.

بينما يرى Jeffrey Frankel أستاذ الاقتصاد بجامعة Harvard أن مقياس تعادل القوة الشرائية مفيد للعديد من الأغراض، وكذلك لمعرفة الحكومات التي نجحت في رفع المستوى المعيشي لمواطنيها، وما إذا كان ينبغي تصنيفها على أنها بلدان نامية أم لا. ولكن ليس لمسائل القوة الجيوسياسية على وجه الخصوص، لأنه من المحتمل أن يفرض مشاكل عند استخدامه لذلك. ولعل النهج الأفضل في تقييم القوة الجيوسياسية، يتمثل في مقارنة الناتج المحلي الإجمالي الوطني بأسعار الصرف الفعلية، وفي هذه الحالة يتضح حجم الاقتصاد بشكل دقيق. ويشير إلى أن المقارنة وفقا لمعدلات تعادل القوة الشرائية غير مفضلة في بعض الأحيان.

كما يشير بعض المراقبين إلى أن صندوق النقد الدولي ذاته، يقدم الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية لأغراض محددة للغاية في توقعاته الاقتصادية العالمية. لكن صندوق النقد الدولي لا يتخذ موقفا بشأن مسألة تحديد أي الاقتصادات أكبر حجما وفقا لذلك، حيث يتمثل أقرب ما وصل إليه صندوق النقد الدولي في تقديم موقف رسمي في صيغته التي توجه تخصيص حصص البلدان الأعضاء، حيث تضع الصيغة وزنا يعادل 50 في المئة للحجم الاقتصادي، أي الناتج المحلي الإجمالي، بينما الباقي لمؤشرات أخرى مثل الانفتاح التجاري. ويعين مؤشر الصيغة للناتج المحلي الإجمالي نفسه وزنا بنسبة 60 في المئة للناتج المحلي الإجمالي المقاس بأسعار الصرف السوقية، و40 في المئة فقط للناتج المحلي الإجمالي بمعدلات تعادل القوة الشرائية.

وأخيرا، حاولنا توضيح أحد أهم المؤشرات التي تقيس الحجم الاقتصادي لأي بلد بعيدا عن الحديث عن قوة ومتانة الاقتصاد أو هشاهشته، بالإضافة للأبعاد التنموية. ويتضح أن الاقتصاد التركي لديه القدرة على تحقيق معدلات نمو جيدة في حال تغلب على التحديات الداخلية والخارجية، وفي حال تم إجراء الإصلاحات الهيكلية المطلوبة للمساعدة في ذلك.

ومن المتعارف عليه في الفكر الاقتصادي، أن الاقتصاديات الناشئة مثل تركيا لديها القدرة على تحقيق معدلات نمو تفوق معدلات النمو في الاقتصاديات المتقدمة، نظرا لأنها لا زالت بعيدة عن مستوى التشغيل الكامل، وهو ما قد يساعدها في النجاح في تحقيق تقدم في الترتيب من حيث حجم الاقتصاد على المستوى العالمي.