لاحظ المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون أن الزعماء الدكتاتوريين في البيرو والفلبين وجنوب إفريقيا وبورما والتشيلي ونيكاراغوا وبولندا وزامبيا ومالاوي وصربيا وأوكرانيا وجورجيا، أجروا استفتاءات وانتخابات لاعتقادهم أن حزبهم السياسي سيفوز، فاكتشفوا أن الشعب لا يقف إلى جانبهم.
حدث ذلك أيضا في الهند عام 1977 بعد نحو عام ونصف من إعلان رئيسة الوزراء أنديرا غاندي حالة الطوارئ في البلاد ردا على الاحتجاجات المناهضة للتلاعب بالانتخابات.
رضخت غاندي لمطالب حزبها (المؤتمر الوطني) بأن الشعب يقف إلى جانبها، فقررت إجراء انتخابات برلمانية، لكنها خسرتها.
هذه المعطيات يدركها النظام السوري جيدا، ولذلك رفض منذ بداية الثورة تقديم أي تنازلات سياسية جدية، لأنها ستكون بمثابة الدومينو الذي سينتهي لاحقا بزوال سلطته، كما رفض مشاركة السوريين في الخارج في "انتخابات مجلس الشعب" الأخيرة، لإدراكه أن انتخابات حرة ونزيه ستنتهي في غير صالحه.
تمثيل النظام لا الشعب
إن ما جرى مؤخرا في ما أطلق عليه "انتخابات مجلس الشعب" انعكاس لذهنية النظام السوري، بأن هذا المجلس هو وعاء لأولئك القادرين على تقديم خدماتهم له، إنه مجلس لتمثيل النظام وليس لتمثيل الشعب.
كما أن ما جرى في هذه الانتخابات والانتخابات السابقة، يعبر عن ذهنية النظام المستقبلية، بأنه لن يسمح على الإطلاق بإصلاحات سياسية مهما كان حجمها، وهو لن يفعل ذلك، لعدم وجود ضغوط خارجية قوية تجبره على تقديم تنازلات سياسية، ولعدم وجود ضغط شعبي داخلي، بعدما أفرغت سوريا من المعارضة، وتحول من بقي فيها إلى رعايا لا يمتلكون حقوقا وخاضعين للملك الإله الذي وحده يمتلك حق الطاعة.
لقد قدر لسوريا أن تعيش حقبتين زمنيتين متناقضتين: فقد سبق لهذا البلد الخارج متعبا من الاحتلال الفرنسي أن يمارس ديمقراطية وإن كانت ناشئة، لكنها كانت مهمة في معايير ذلك الزمن، ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم، باستثناء الديمقراطيات الغربية الراسخة.
كان ثمة انتخابات تجري، تقوى حينا وتضعف أحيانا، لكنها كانت مصحوبة ببرلمان فاعل وأحزاب سياسية متعددة وفاعلة اجتماعيا، ومجتمع مدني يتلمس طريقه، وهكذا كانت سوريا معقلا للأفكار المتضاربة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وحياة سياسية صاخبة لا يعكر صفوها إلا تدخلات العسكر.
ليست العودة إلأى الماضي مجرد نوستالجيا سياسية، بقدر ما هي محاولة للتذكير كيف انقلب الوضع في سوريا إلى نظام دكتاتوري رث يفتقد إلى أبسط مقومات السياسة والحقوق الاجتماعية الطبيعية.
أربع ملاحظات
لكن "الانتخابات" الأخيرة عكست أربعة أمور مهمة للغاية:
الأول، أن النظام اضطر إلى مكافأة مجرمي الحرب من قادة الميليشيات الذين قاتلوا معه بالسماح لهم بالدخول إلى "البرلمان"، وهذا يعكس مدى رداءة هذه المؤسسة، ويعكس حاجة النظام إلى الإبقاء على حالة الولاء لهذه الفئة المجرمة، بعدما انتهت العمليات العسكرية الكبرى، كما أن النظام يسعى من وراء ذلك إلى إبعادهم عن الملاحقات الجنائية الدولية أو غض الطرف عنهم بتحويلهم إلى رجال سياسة.
الثاني، إبعاد شخصيات اقتصادية طالما كانت حاضرة دائمة في البرلمان خلال الدورات الأربعة أو الخمسة الأخيرة، واستبدالهم بشخصيات أخرى، وهذا مؤشر على أزمة ثقة يبحث عنها النظام دائما ضمن الولاءات المبعثرة والكثيرة، وهو إذ يفعل ذلك، إنما يوسع دائرة الزبونية لإدخال شخصيات جديدة، بعدما نالت الشخصيات القديمة حظوظها.
سبق لهذا البلد الخارج متعبا من الاحتلال الفرنسي أن يمارس ديمقراطية وإن كانت ناشئة، لكنها كانت مهمة في معايير ذلك الزمن، ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم، باستثناء الديمقراطيات الغربية الراسخة.
الثالث، الحضور الإيراني الكبير، حيث لم يقتصر الأمر على ترشح سوريين مقربين من إيران، بل وصل الأمر إلى حد ترشح إيرانيين ممن حصلوا على الجنسية السورية خلال السنوات الماضية.
رابعا، يبدو أن روسيا ليست في وارد الضغط من أجل وقف الانتخابات، فهي بحاجة إلى استمرار العملية السياسية الداخلية وإن كانت شكلية، وهذا ما عبر عنه تقريبا مندوبها في مجلس الأمن فاسيلي نيبينزيا حين أعلن أنه "من خلال تنظيم الانتخابات، تضمن السلطات السورية أن هياكل السلطة التشريعية منها والتنفيذية تعمل بشكل طبيعي".
لكن روسيا عملت على تصويب الانتخابات أو الحد من تقدم مرشحين خاضعين لعقوبات دولية، أو مدعومين من إيران، وربما تكون ظاهرة الاستئناس الحزبي من أفكار الروس لتجميل العملية الانتخابية.
ومع أن الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قد صرحت بأن الانتخابات البرلمانية في سوريا مهمة للحفاظ على الاستقرار في البلاد، إلا أنها أعقبت ذلك بالقول إنه "من السابق لأوانه تقييم هذه الانتخابات قبل معرفة نتائجها"، ما يعني أن الروس يوجهون رسالة بأن هذه الانتخابات ليست ديمقراطية، لأن جوهر الانتخابات غير مرتبط بالنتائج وإنما بنزاهة العملية الانتخابية ذاتها.
*كاتب وإعلامي سوري
قَرْنٌ مِن الزَّمانِ على ميْسلون.. الرُّموزُ والشُّهداء