تصوروا معي هذا السيناريو: تدخل في عصبية واضحة إلى عيادة طبيب الأورام الذي أحالك عليه طبيبك المعالج بصورة غير متوقعة، وبمجرد الاطلاع على تعبيرات وجه اختصاصيي الأورام في العيادة، تدرك أن الأنباء غير سارة بالمرة. وأنت لست مخطئاً\ في ذلك، وتقول لنفسك في حسرة بالغة: «لو أنني تمكنت من المجيء إلى هنا قبل ستة أو ثمانية أسابيع فقط؟!».
تلك من التجارب الأليمة التي مر بها وتشارك فيها الآلاف من المواطنين الأمريكيين في كل عام. ومن شأن قرارات الإغلاق العام بسبب وباء كورونا المستجد أن تضيف إليهم مزيدا من الآلام ناهيكم عن الأرقام. ووفقا للدكتور أنتوني فوشي، أبرز خبراء علوم المناعة في الولايات المتحدة، فإن قرارات الإغلاق العام – ومن حيث أضرارها البالغة في حرمان المرضى من متابعة الفحوصات الطبية الروتينية والمهمة – سوف تسفر على الأرجح عن ارتفاع كبير في حالات الوفاة الناجمة عن مرض السرطان خلال السنوات الخمس المقبلة، بما يصل إلى 10 آلاف حالة. وهذا من المفاضلات الكلاسيكية للغاية: السماح لبعض المرضى بالوفاة من أجل إنقاذ حياة أناس آخرين. بيد أننا لا نصف الأمور على هذا النحو بطريقة أو بأخرى، بل إننا نتعامل بصورة سيئة للغاية في أوقات الطوارئ، ونتخذ القرارات السيئة غير المدروسة بعناية نتيجة لذلك.
ودعونا نكون واضحين. هذه الوفيات ليست ناجمة بالأساس عن جائحة وباء كورونا، بل إنها الوفيات الناجمة عن طريقة استجابتنا وتعاملنا مع الوباء. وحتى مع حقيقة أن المرضى في أغلب الأماكن صار بإمكانهم معاودة زيارة عيادات الأطباء المختصين، فإن ذلك يحدث بعد وقوع الكارثة وإلحاق الكثير من الأضرار بالعديد من المرضى وأسرهم. فإننا عندما نطلب من المرضى تجاوز مواعيد الفحوصات الطبية الروتينية احتراما لقرارات الإغلاق العامة، فإننا في واقع الأمر نحكم على الآلاف منهم بالوفاة المبكرة التي يمكن الوقاية منها بكل سهولة. ونعاني جميعا من هذه المآسي الشديدة نظرا لفشلنا الذريع في حسن تقدير الأمور.
تذكرنا المؤلفة إلين سكاري من جامعة هارفارد الأمريكية في كتابها اللطيف لعام 2011 الذي كان بعنوان «أسلوب التفكير في زمن الطوارئ»، بالإغراء الشديد الذي يتمثل في إسناد صلاحيات هائلة إلى الحكومة خارج الإطار الديمقراطي في أوقات الأزمات والطوارئ. وتستطرد قائلة بأن المشكلة تكمن بالأساس في محاولة البقاء ضمن شبكة الأمان، مع الميل الكبير إلى تسليم الأنماط الأولية من المسؤولية السياسية إلى الساسة وأصحاب السلطة.
ويشير الادعاء الضمني في حالات الطوارئ إلى ضرورة توقف الإجراءات كافة وتجميد التفكير تماما نظرا لأن الحالة الطارئة تستلزم أمرين؛ أولا ضرورة اتخاذ الإجراءات، وثانيا سرعة اتخاذ الإجراءات. وفي مثل هذه اللحظات، كما تقول إلين سكاري، يدخل العقل البشري في حالة «سُبات إجبارية»، عندما تتوقف تماما عن التفكير في أثناء مواصلة اتخاذ الإجراءات بصفة عفوية بالغة.
ومن المؤكد تماما أن هذا هو ما حدث في بلادنا؛ إذ لم يتوقف أطباء الأورام عن دق نواقيس الخطر بشأن مخاطر الإغلاق العام على مرضى السرطان. ولا يمكن اعتبار المواعيد الطبية عن بُعد بديلا مناسبا ما لم تُجرَ الفحوصات واختبارات الدم الحقيقية. ومن شأن كيمياء الدم أن تكون من المؤشرات المهمة؛ إذ تظهر العلامات الإكلينيكية في بعض الأحيان على المرضى، قبل أن يجري اكتشاف المرض أو الورم عن طريق الاختبارات المعملية. وكما قال أحد خبراء علوم الأورام في مارس (آذار) الماضي: «لا يمكننا أبدا قياس العقد الليمفاوية عن طريق الفحص الطبي بالفيديو المرئي عن بُعد».
تتوازى تقديرات الدكتور أنتوني فوشي بوصول حالات الوفيات إلى 10 آلاف حالة مع توقعات مماثلة صدرت في شهر يونيو (حزيران) من العام الجاري عن «المعهد الوطني للسرطان» في الولايات المتحدة. كما خلصت دراسة ظهرت على صفحات مجلة «لانسيت» الطبية – بالاعتماد على البيانات الصادرة عن هيئة الخدمات الصحية في المملكة المتحدة – إلى أن الزيارات الطبية المفقودة جراء حالة الإغلاق العام الراهنة في المملكة المتحدة، من المرجح أن تؤدي إلى زيادة هائلة في حالات الوفيات من مرض السرطان في غضون خمس سنوات من تشخيص المرض. ومن المتوقع لحالات الوفيات بسرطان الثدي، على سبيل المثال، أن ترتفع بنسبة بين 7.9 إلى 9.6 في المائة، في حين تتراوح التوقعات بين 15.3 إلى 16.6 في المائة بالنسبة إلى سرطان القولون والمستقيم. ومن ثم، التغافل عن أمراض السرطان في أوقات مبكرة من الأزمة الراهنة ثم معاودة الانتباه إليها مجددا، ولكن بعد فوات الأوان. وفيما يلي رأي الدكتور نورمان شاربلس، رئيس «المعهد الوطني للسرطان» في الولايات المتحدة، من واقع مقال له في مجلة «ساينس»: «لاحظنا بالفعل وجود انخفاض حاد للغاية في حالات تشخيص مرض السرطان في الولايات المتحدة منذ بدء انتشار وباء كورونا المستجد. ولكن ليس هناك من سبب وجيه يدعو إلى الاعتقاد بأن معدل الإصابة الفعلي بمرض السرطان قد انخفض بأي مقياس. فإن حالات الإصابة بالسرطان التي نتغافل عنها حاليا بسبب الأزمة الراهنة سوف تعاود الظهور في نهاية المطاف مرة أخرى، وإنما في مرحلة لاحقة متقدمة ومع توقعات صحية أبلغ ضررا».
ربما كانت المفاضلة الراهنة مستحقة للعناء المتكبد لأجلها، ولكن لا ينبغي على الإطلاق الخروج بالمفاضلات عن سياقها المنضبط بهذا الشكل الأرعن، ومن دون نقاش علمي عام.
تقول الكاتبة إلين سكاري؛ «إن الوقت المناسب للتفكير بشأن حالات أو أوقات الطوارئ يكون قبل وقوع الكوارث والأزمات. وتكمن المشكلة في أننا نفتقد الجدية في الحديث عن حالات الطوارئ التي ربما تكون بعيدة عن واقع حياتنا. ولكن مع وصول حالة الطوارئ إلى عتبات بيوتنا، يكون أوان الحديث قد فات وجاء وقت العمل الضروري. وفي بعض الأحيان – ربما قبل أكثر من عشر سنوات بقليل – نشر فريق عمل فيدرالي دراسة تمهيدية ممتازة بشأن كيفية تأهب الهيئات الحكومية والكيانات الخاصة لمواجهة الأوبئة في المستقبل – ولكن القليل للغاية من التوصيات التي تضمنتها الدراسة أخذت حقها الوافر من الاطلاع أو الدراسة أو التنفيذ على الإطلاق».
ويدور في مخيلة الكاتبة سكاري الجودة الرديئة لمداولات المواطنين الأمريكيين بشأن مجريات الأمن القومي، لا سيما تلك السياسات التي تتحكم في الأسلحة النووية والقرارات المعنية بكيفية دفاع الولايات المتحدة ضد الهجمات الإرهابية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). بيد أن المنطق الذي استعانت به، ينسحب تماما على التعامل مع أزمة وباء كورونا المستجد الراهنة.
ومع شروع حكام الولايات والسلطات الصحية العامة في البلاد في تحفيز المواطنين وإصدار الأوامر بضرورة البقاء في المنازل، كانوا يتناولون الأمر من زاوية الفوائد والمنافع فحسب، وأننا من خلال تجنب التواصلات المستمرة سوف نقلل من مخاطر انتشار الفيروس القاتل الجديد. ولم يكلف أحد منهم نفسه عناء الإضافة بأنه إن فعلنا ذلك فسوف يؤدي الأمر – وبكل أسف – إلى وفاة عدة آلاف من المواطنين المصابين بمرض السرطان. ولقد طُلب منا أن نبعث بعقولنا وتفكيرنا إلى المنفى، تماما كما قالت الكاتبة الأمريكية البارزة.
أما لو كنا طرحنا الأمر للمناقشة بكل صراحة وأمانة بشأن التكاليف الصحية المحتملة لقرارات الإغلاق، ربما كنا توصلنا للنتيجة نفسها. وربما كنا قررنا التضحية ببعض الأرواح من أجل الحفاظ على وإنقاذ المزيد منها. ولكن من جهة أخرى، ربما كنا اخترنا بدلا من ذلك أن نحض المزيد من المرضى والأطباء على مواصلة المواعيد الطبية الشخصية، عوضا عن إغلاق العيادات الطبية تماما. ولن نعرف النتيجة الحقيقية على الإطلاق، نظرا لأننا تجاهلنا طرح الأمر للمحادثة والمناقشة العامة. ولكن ما نعرفه فعلا، ويجب ألا نخجل من الإقرار به، هو أن السياسة التي اخترناها قد أنقذت الكثير من الأرواح مع إصدار الكثير من أحكام الإعدام على الآخرين.
( الشرق الأوسط اللندنية)