دشن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتشريد أهلها فصولا من الغربة والمعاناة عاشها الفلسطينيون ولا يزالون يعيشون في ترحالهم بين مخيمات اللجوء في كل أنحاء العالم.
عبد القادر ياسين كاتب فلسطيني يساري، واحد من النشطاء الفلسطينيين الذين انخرطوا مبكرا في العمل السياسي والفكري من أجل العودة إلى فلسطين، وواجه في سبيل ذلك قصصا من الاعتقالات والتنقل بين المنافي، اختار أن يروي جزءا منها لـ "عربي21"، توثيقا للذاكرة الفلسطينية.
وهو اليوم يفتح ملف زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس عام 1977، وما خلفته من ردود أفعال دفعت بالسلطات المصرية إلى اتخاذ قرار بترحيل عدد من قيادات العمل الفلسطيني يومها في مصر.
صلح السادات مع إسرائيل
في مفاجأة صاعقة، توعد الرئيس المصري أنور السادات الأمة العربية بالصلح مع إسرائيل (9/11/1977). هنا بدأ العد التنازلي لترحيل أعضاء الهيئة الإدارية، ومندوبي المؤتمر العام لاتحاد الطلاب الفلسطينيين من بين أعضاء الفرع، ولكن بعد أن يخصم جهاز الأمن منهم أعضاء "فتح"!
نقَّذ السادات وعيده، يوم 19/11/1977، وتطابق مع أول أيام عيد الأضحى، حيث زار المسجد الأقصى، وصلى فيه، في إساءة فاضحة للدين.
يومها، بدأتُ المرور على منازل بعض أعضاء الفرع، إلى أن انتهيتُ ظهرًا، عند مديحة عرفات، أخت ياسر عرفات، وعضو الفرع، التي ما أن رأتني، حتى أبدت استهجانها من بيان نُسب إلى الفرع، يندد، بالسادات، ومبادرته. نفيت لها أن نكون أصدرنا مثل هذا البيان، متوقعين أن يعدل السادات، في آخر لحظة عن تنفيذ وعيده، وإن لم يحدث، فعلينا الانتظار دون تحُّول في المزاج الشعبي المصري، بعد أن يتأكد الشعب المصري، بالملموس، مدى زيف أنهار العسل والسمن، التي وعد بها السادات، في حال الصلح مع إسرائيل.
وسألت مديحة عمن قرأ البيان، أو وزعه، فذكرت لي إسمًا لم يكن عضوًا في الفرع، وهو سائق، ومندوب في"أمن فتح". فزادتني بأن المذكور قرأ البيان في تجمُّع غاضب للطلاب الفلسطينيين، تم في مقر فرع اتحاد الطلاب، في سينما كريستال، بمصر الجديدة.
فرغت من زيارات العيد وعدت إلى منزلي، لأجد ثلاث سيارات أمن، وإثني عشرة شرطيًا ومخبرًا، وضابطي شرطة، تنفسا الصعداء، حين رأياني. واصطحباني إلى منزلي، بينما أصرت زوجتي أن أتناول إفطاري، لأني "على لحم بطني". فأذعن الضابطان، وأخذت زوجتي تقصُ عليهما "قصة خيشة". ومؤداها أن الملك فؤاد كان يمر بموكبه، وسط القاهرة، وقد وقف مخبر شاب ضمن التشريفة. وحين مر موكب الملك، قالت بائعة فجل لطفلها، الذي كانت تحمله على كتفها، وقد غمره الذباب: "إيمتى يا بني يا خيشة أشوف موكبك، زي الملك فؤاد كدة" نهرها المخبر، وقد راعه أن تشبه طفلها بالملك.
توالت السنون وقد هدَّت الكهولة المخبر إياه، ونراه يقف ضمن التشريفة لموكب رئيس الجمهورية، وحين وازت سيارة الرئيس المكشوفة المخبر الكهل، شهق الأخير، وقال: "مين خيشة؟!" وسقط مفارقًا الحياة.
ضحك الضابطان من قلبيهما، قبل أن يتذكرا منصبيهما، والمهمة الموكلة إليهما، فقطعا الضحكة.
اصطحباني إلى إحدى السيارات الثلاث، وتوجها بي إلى قسم الحجز في مجمع القاهرة. وهناك التقيتُ كلًا من أحمد عمر شاهين، محمد أحمد رمضان (رحمهما الله)، ومريد البرغوثي، وفي غرفة أخرى، احتُجز الشاعر الفلسطيني الكبير، هارون هاشم رشيد. بعد قليل، طلبوا إلينا أن نجهِّز ثمن تذكرة طائرة إلى بغداد. ناقشناهم، لكن دون فائدة، بأننا نريد الذهاب إلى دمشق، خاصة وأن دخولها بلا تأشيرة للفلسطينيين.
خصصوا لي ضابطي شرطة، لمرافقتي إلى المنزل كي أحضر النقود المطلوبة، وأحضرت المال المطلوب، وفي طريق عودتنا، نزل أحد الضباط، واحتجز الطالب الفلسطيني توفيق وصفي أبو زعنونة. وبدأنا في تبادل النكات، توفيق وأنا، التي أطلقها الشعب المصري على السادات، منذ توليه رئاسة الجمهورية المصرية.
في هذه الأثناء، وصلت إشارة لاسلكية إلى الضابطين، تفيد بأن ثلاثة من الكتاب الفلسطينيين تم إنزالهم من الطائرة المتجهة إلى بغداد، ما يشي بأن قرار الترحيل قد ألغي. هنا، انطلق الضابطان في محاولة منهما لردنا عما سقناه من سخريات، لكننا أفهمناهما بأننا لم نسرد ما قلناه عن السادات، بسبب قرار ترحيلنا، بل لأنه هو كذلك. أبدى الضابطان دهشتهما من عدم تراجعنا عما بدر منا!
وصلنا غرفة الحجز في المجمع، فقص عليَّ الزملاء الثلاثة ما كان معهما في مطار القاهرة. وما هي إلا لحظات، حتى وصلت "الكلبشات"، وربطنا بها، "كلبشة لكل شخصين، ونُقلنا إلى تخشيبة الخليفة، بحي القلعة، حيث مكثنا أربعة أيام، في غرفة يسبح فيها البق، ويرتع الباعوض، وما إليه من الحشرات والطفيليات، قبل أن نُنقل مخفورين، إلى مطار القاهرة، حيث وُضعنا في طائرة، سرعان ما حلقت بنا، مع جميع الركاب، وحين اقتربنا من مطار بغداد، انتقل مريد البرغوثي من مقعده، واقترب مني، ليسر لي بأن ثمة خشية من أن يعتقلنا أبو نضال البنا، لكثرة ما هاجمنا أساليبه الإرهابية. هدأت من قلقه، وأكدت له بأن الحكومة العراقية لا تبيح لكل مَن هبَّ ودبَّ أن يطيح بالناس، كما يشتهي.
في ضيافة وزارة الثقافة العراقية
ما أن حطت الطائرة رحالها في مطار بغداد، حتى صعد شابٌ وسيم، أشقر، إلى الطائرة، وسأل: "أين الأستاذ عبد القادر ياسين؟" فأسرَّ لي مريد: "يبدو أن هذا هو أبو نضال." نفيت له، وعرّفت السائل بنفسي، فقال لي أنا :"أمير الحلو، مدير مكتب وزير الثقافة نرحب بكم أنتم الأربعة، ضيوفًا علينا".
رددتُ شاكرًا له ولوزير الثقافة كرمهما، واردفت: "بل نحن خمسة." أجاب: "الرسالة التي وصلتنا من القاهرة تؤكد بأنكم أربعة كتاب." وهذا صحيح. أما الخامس فكان الطالب محمد صقر، وما كان لنا أن نتركه. نزلنا في "صالة كبار الزوَّار"، وتوجه أمير إلى الهاتف، وعاد ليبلغنا بموافقة وزير الثقافة على استضافة الخامس، وانتقلنا إلى فندق ثلاث نجوم. وسرعان ما تدفقت علينا جموع الطلاب الفلسطينيين، المرحلين من مصر.
زار الفندق أحد مساعدي أبو نضال، وطلبني بالإسم، ورحب بنا، نيابة عن أبي نضال، معتذرًا بأن الأخير لا يظهر في الفنادق، والأماكن العامة، فعاجلته: "نحن نذهب إليه." وعرضت الأمر على زملائي الثلاثة، فوافق إثنان، واعتذر محمد أحمد رمضان، وإن اشترط أحمد عمر ومريد بأنهما سيتركان الحديث لي مع أبي نضال، وكانت جلسة عاصفة حذَرني بعدها زميلاي بأنهما لا يستبعدان أن يغتالني أبو نضال، عقابًا لي على ما بدر مني في حضوره.
توجه رمضان إلى الأمم المتحدة، حيث عمل مترجما فوريًا، ولم يطق شاهين البقاء خارج حي السيدة بالقاهرة. وبقيت أنا ومريد رهن النفي، لنحو ثلاثة عشر عامًا ونصف.
حفلت السنوات الخمس التالية بأحداث مهمة. وخرجت من بيروت على ظهر آخر سفينة غادرتها، وهي تحمل "الفدائيين" (1/9/1982)، وحطت بنا في ميناء طرطوس السوري.
من قادة المقاومة، الذين أقلتهم هذه السفينة، كان صلاح خلف (أبو إياد)، الرجل الثاني في "فتح"، وأحمد اليماني (أبو ماهر)، الرجل الثالث في "الشعبية".
سرعان ما انتقلنا إلى دمشق، وعبثًا حاولت الدخول إلى القاهرة، عبر مطارها، لكنهم احتجزوني مع آخرين، في مطار القاهرة، لمدة أسبوعين، على كرسي بلاستيكي، في غرفة حجز المطار، قبل أن يعيدونا إلى دمشق. ثم جاء الفرج، وعدت إلى القاهرة (12/12/1982)، وضمن من زاروني مهنئين، كان فؤاد عباس، مسؤول الأرشيف في"إذاعة الثورة الفلسطينية" (المغلقة منذ آيلول/سبتمبر 1975)، وأصر عباس على دعوتي أنا وزوجتي إلى الغداء في منزله. وعلى المائدة، قصَّ علينا عباس ما جرى وكان، فكانت المفاجأة. حيث قال إنه في يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، توجَّه إلى مكتب "فتح"، بشارع عدلي، وسط القاهرة، فوجد أنور عبد الرحمن، مسؤول العلاقات الخارجية بالفرع، المعروف بارتباطه الوثيق، بأمن الدولة، يجلس مع ربحي عوض، معتمد "فتح"، آنذاك، عندها، صاح عبد الرحمن: "ها قد جاء أبو إبراهيم (عباس)، وخطه حلو، خليه يكتب البيان." وقد كان. وهو البيان الذي تذرع به الأمن، ليُرحِّل الأربعة مستثنيًا من لجنة الفرع أعضاء "فتح"! فما تفاصيل المؤامرة؟!