- ما ينقصنا في تونس سياسة ثقافية واضحة وذكية بعيدة عن السياسة والمحسوبية والمصالح الشخصية
- من يعتقد أن الرقمي يمثل تأثيرات لنتائج آلية توفرها التطبيقات فهو مخطئ ولا علاقة له بالفن
- علاقة الفنانين التشكيليين ببعضهم متردية
- انسحبت من مهمة تأسيس المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر لأنه مشروع أقرب منه الخيال
- الإشكاليات في الرسم الرقمي من حيث التعامل معها كأعمال فنية قابلة للبيع والمبادلات
أوَل مرَة التقيت
الفنان التشكيلي سامي بن عامر كان ذلك سنة 2008 أي تقريبا قبل اثنتي عشرة سنة، كنت متدربة
حينها وطُلب مني كتابة مقال عن رسوماته وكان حِملا على متدربة، فكيف لصحفي أن يكتب
مقالا عن لوحة تشكيلية.
شعرت حينها بشيء
يقبض على أنفاسي بين هم كتابة مقال ناجح وهم مدى نجاحي في تحويل لوحة إلى مقال
صحفي أو كيف لي رسم لوحة على ورق بالكلمات و لم يكن من مصلحتي الاستسلام في أوَل
اختبار صحفي لي في مسيرتي.
ولكن منذ أوّل حديث
جمعني بالدكتور سامي بن عامر آنذاك وبفضل جرأته وشفافيته في طرح قضيته كان سهلا علي إدراك نقطة الضوء في رسوماته و التي كان يجب الانطلاق منها في كتابة المقال وكانت
تجربة مهمة وأوّل خطوة في اتجاه الصحافة الثقافية.
اليوم بعد اثني عشر عاما تقودني إليه جرأته مجددا من خلال إصراره المستمر على إدخال الفن التشكيلي إلى
المختبر ومساءلته وتطويعه للتطورات الثقافية والتقنية وبعد اثنتي عشرة سنة ما زلت أرتبك
أمام تجربة متجددة، تجربة تفرض على الحرف من نفس تلك اللغة التي نقلت التجربة
التشكيلية المادية، تفرض عليها الكتابة عن تجربة الرسم الرقمي ..
وكالعادة كان سامي بن
عامر جريئا واضحا في مقابلة دامت ساعات قصيرة ولكنها اختزلت بصدق مواقفه وآراءه
وحماسته لتطوير الفن التشكيلي في تونس...
قدّمت معرضا افتراضيا مؤخرا بعنوان "لمسة مميتة".. هل تفكّر في أن تقدمه في غاليري؟
نعم لقد أنجزت هذا
المعرض خلال الفترة التي عشناها ونحن محاصرون في منازلنا بسبب جائحة الكورونا، إذ
أصبح من الصّعب أن ألتحق بمرسمي، فلجأت إلى حاسوبي لإنجاز مجموعة من الرّسوم
الرقمية قدّمتها في معرضٍ شخصي افتراضي على حسابي الخاص باليوتيوب. هو معرض دعوت له
الجمهور لزيارته بطريقة افتراضية كما نزور أية قاعة عرض، ولاكتشاف اللوحة تلو الأخرى المعروضة فيه وللاطّلاع على النّصوص المرفقة والموضحة لها وللتمشي الفني
المعتمد. وهي تجربة خصوصية فرضتها عليّ مرحلة الكورونا، وهي تمثل إضافة في سيرتي
الذاتية. سألتني أن أفكر في إقامة نفس هذا المعرض في غاليري، نعم ممكن ذلك
ووارد. وهو ما يستدعي أن نمرّ إلى طباعة
هذه الأعمال وتثبيتها على محامل مسطحة لتصبح مادية وليست رقمية. ولقد تطورت
الطباعة اليوم ويمكن أن تكون على ورق أو قماش أو على البلور أو غير ذلك من
المحامل. كما هو بالإمكان عرض هذه الأعمال في شكل صور ضوئية لامعة حتى نتمكن على
إبقاء خصوصيتها هذه التي تميّز الصورة الرقمية. ولقد نظم الرسام البريطاني دافيد
هوكناي سنة 2010 معرضا بباريس بعنوان أزهار يانعة تضمّن أعمالا رقمية قدّمها على
محامل ضوئية لامعة في شكل هواتف جوالة. نعم تقديم معرض لمسة مميتة في غاليري ممكن
ووارد، سواء تحولت أعماله الرقمية إلى مطبوعات أو أبْقِي على خصوصيتها الضوئية.
لكنني لا أفكر في مثل هذا المعرض الآن.
كيف تقيّم تجربة الفنون التشكيلية مع مرحلة كورونا؟
الحقيقة كنت من بين
المبادرين الأوائل بالاهتمام بهذا الموضوع منذ بداية انطلاق الحجر الصحّي، حيث كنت أنشر كل يوم على صفحتي في فيسبوك عملا جديدا حول هذا الموضوع. وقد تفاعل مع هذه
الأعمال عديد المطلعين على الصفحة. وكنت أسعى لكي تكون مختلفة ومتجددة حتى لا
أكرّر نفسي.
وهناك أيضا عديد الفنّانين من تطرّقوا للموضوع بمختلف التقنيات، على الصعيد الوطني والعربي والعالمي. ولقد دُعيت للمشاركة في بعض المعارض الافتراضية التي نُظّمت عربيا ودوليا. وسأشارك في شهر سبتمبر القادم في معرض جماعي حول هذا الموضوع تنظمه جمعية آرت- كوت برواق علاء الدين بسيدي بوسعيد. وسيتمثل عملي في لوحة مادية بتقنيات مؤلفة. لقد اشتغل الفنانون على موضوع الكورونا كما اشتغل فنانون آخرون من قبل على مثل هذه الأوبئة.
وجب القول إن هذا
الموضوع أصبح اليوم هاجس البشرية قاطبة. ومن الطبيعي أن يهتمّ به الفنان. ولعل
مركز التعبير في جل ما تقدّم من أعمال في هذا الخصوص، يتمثل في إبراز الطابع
التراجيدي الذي ألمّ بالإنسان في هذه الكارثة البشرية. يمكن القول إن الفنون
التشكيلية كانت حاضرة وبقوة في هذه المرحلة التي طبعتها جائحة الكورونا.
هل أخذ الفن منعطفا نحو الرقمي والافتراضي بشكل حاسم؟ وهل لذلك أثر على الفن كسوق؟
الحقيقة أن تجربتي مع
الرسم الرقمي بدأت منذ أربع سنوات وكانت صدفة في البداية. إذ تبين لي يوما وأنا
أجرب بعض البرمجيات ذات العلاقة بالرسم، ثراء هذه الوسيلة التّعبيرية الخصوصية.
وتيقّنت من وقتها أنني قادر على أن أعمِّق هذه التجربة. وقد قمت من حين إلى آخر بنشر
بعض الأعمال الرّقمية على صفحتي في فيسبوك جلبت انتباه الكثيرين. إلا أن تجربتي
التي قدمتها أخيرا حول جائحة كورونا، كانت أكثر عمقا. وقد تساءل بعض زملائي إن أنا
قد تخلّيت عن رسومي المادوية التي أعتمد فيها تقنيات مؤلّفة وخامات ناتئة. وأجيب
لا بالطبع. وإني أرى أن الرسم الرقمي يخدم الرّسم المادي والعكس أيضا صحيح. لكن من
المؤكّد أن الفنان كان دائما يستغل ما تُقدِّم له الاكتشافات العلمية من أدوات
وتقنيات. والكمبيوتر وما يتضمّنه من برمجيات تخدم الرسم عموما، هو من ضمن هذه
الاكتشافات المُدهشة والثّرية. ولقد كتبت حول تجربتي الأخيرة نصوصا باللغتين
العربية والفرنسية تطرقت فيها لخصوصيات هذا الصنف من الفن. البعض نشر والآخر سينشر
قريبا في مجلات علمية أو مختصة في موضوع النات آرت. ويمكن القول إن الأعمال
الرّقمية بدأت تأخذ مكانة كبرى في مجال الفنون البصرية.
وقد نطلع عليها في
الفضاء الافتراضي أو في قاعات العروض عندما تتحول إلى أعمال منسوخة على حوامل
مختلفة. ويمكن في هذه الحالة مقارنتها بنسخ الأعمال الفنية في مجال الحفر أو
الليتوغرافيا أو السيروغرافيا. وهي أعمال لها قوانينها وضوابطها في السّوق الفنية.
علما بأن الأعمال الرقمية المنسوخة على حوامل مختلفة تُعتمد اليوم بكثرة في
الولايات المتحدة الأمريكية. لكن من
الواضح أن الرسوم الرقمية وخصوصا ما ينشر افتراضيا (النات آرت)، لا تزال تطرح عديد
الإشكاليات من حيث التعامل معها كأعمال فنية قابلة للبيع والمبادلة. من هذه
الزاوية لم يحسم الأمر بالكامل بعد. وأن نلاحظ تزايد حضور الفن الرقمي، فهذا ليس
من شأنه أن يزيل العمل الفني المادي. فسيبقى الفنان دائما في حاجة إلى هذا التعامل
الملمسي والمادي للخامات. وربّما، كلما تعمقنا في الافتراضي، اشتدت حاجتنا إلى
الملموس. وجب التأكيد على أن الفضاء الافتراضي المتاح للجميع بفضل الإنترنت، قد
فتح مجالا جديدا لكل الفنانين. فلم يعد الفنان التشكيلي رهين قاعة العرض الوحيدة
القادرة على التعريف بأعماله، بل أصبح منفتحا على فضاء رحب يخترق حدود الجغرافيا
ليطال الكوني. وقد يجد في ذلك فرصا للتعريف بفنه ولبيعها سواء كانت هذه الأعمال
رقمية في أصلها أو صورا رقمية لأعماله الفنية المادية.
تعتمد كثيرا على التقنية في أعمالك الأخيرة، أي إمكانيات أتاحها هذ الخيار؟
أظن أنك تقصدين أعمالي
الرقمية. أكيد أنني أعتمد تقنيات تتيحها
لي البرمجيات المختلفة ذات العلاقة بالرسم والبحث الغرافيكي. وقد سبق أن بينت
بطريقة معمقة في كتاباتي، خصوصية التقنيات التي تمكّننا منها أدوات هذه البرمجيات:
أقراص بدلا من أدوات تقليدية كالفرشاة والقلم، وشاشة وتطبيقات وفأرة تمكننا من
التواصل مع هذه التطبيقات التي نكتشف فيها لوحة من الألوان الثّرية. وهو ما يوفّر
لنا إمكانات تقنية بلا حدود. وبيّنت أيضا أن تعاملي التقني مع الرسوم الرقمية هو
نفسه مع رسومي المادية. فأنا اعتبر دائما أن التقنية مبدعة أو لا تكون وأنها
متغيِّرة بتغير بحوثنا ومغامراتنا الفنية، مما يحيلنا إلى عالم لا متوقع، يفاجئ
الفنان مثلما يفاجئ المتلقي بتأثيراته وظواهره التشكيلية. في هذا الإطار تصبح
التقنية بحث دائم وهو نتيجة لما يمكن أن تقدمها طبيعة الخامات والأدوات المعتمدة
في العمل من جهة، وما يوظفه الفنان من فكره وتوقعاته وشعوره من جهة أخرى. وهذا
ينطبق على الرسم المادي والرقمي على حدّ السّواء. ومن يعتقد أن الرّسم الرقمي
يتمثل في تأثيرات لنتائج آلية توفّرها التطبيقات، فهو مخطئ ولا علاقة له بالفن.
كيف تجد علاقة الفنانين التشكيليين بعضهم ببعض في تونس؟
هذا موضوع آخر. وهو
موضوع هام ومُحيّر أيضا. ويمكن أن أجيب مباشرة أن علاقة الفنانين التشكيليين
ببعضهم بتونس جدّ متردّية على مستوى الأفراد كما هي على مستوى الجمعيات التي تنشط
في هذا القطاع.
فقطاع الفنون
التشكيلية يشكو من عديد المعضلات منذ فترة طويلة. ما زلت أتذكر، عندما كنت أمينا
عاما على رأس الاتحاد، الملتقى الكبير الذي نظمناه بسوسة سنة 2002 في إطار
الاستشارة الوطنية حول الثقافة. وقد جمع أكثر من 300 مشارك وأفضى إلى وثيقة تضمنت
جملة من التوصيات تهدف إلى تطوير القطاع. جل هذه التوصيات لا تزال مطروحة إلى
اليوم. ويمكن القول إنه ومنذ 14 يناير 2011، اختلطت الأمور وعمّت الفوضى في صفوف
الفنانين ودخلت أطراف خارجية نشطت لصالح أجنداتها السياسية واختلطت المفاهيم
وسُوِّق للفن المعاصر صورة خاطئة.
وقد عُيِّنت منذ غرة
أوغسطس 2017 إلى 31 يوليو 2018 مستشارا بوزارة الشؤون الثقافية، حيث كُلفت بتأسيس
المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، لكن تبين في النهاية أن هذا المشروع أقرب
للخيال منه إلى الواقع. لذلك انسحبت من هذه المهمة. وهو وإلى حد اليوم لم يفتح
بعد.
عموما فإن القطاع مهمش والحال أن لدينا عديد
المعاهد العليا في مجال الفنون التشكيلية والتصميم. نحن نعيش اليوم تضخّما في عدد
هذه المعاهد وفي عدد المتخرّجين منه وفي عدد الفنانين، وفي المقابل ليس هنالك
مشروع واضح لهذا القطاع. أمّا لجنة شراءات الدولة فحدث ولا حرج. فقد تُعهد في بعض
الأحيان لمن ليس لهم خبرة في المجال ومعرفة بالمبدعين، فيتسبّب ذلك في صدام مع
الفنانين.
كل هذه المعطيات خلقت
مناخا متوترا بين الفنانين وحتى بين الجمعيات الخاصة بالقطاع. وعلى الفنانين أن
ينظّموا صفوفهم من جديد لفرض تصورات قادرة أن تغير في وضعيتهم. فلقد تبين أن
السياسات التي عشناها وخصوصا خلال هذه العشرية، سياسات فاشلة وعقيمة. ونرجو أن
يكون المستقبل أفضل. لكن وجب العمل حتى يتحقق ذلك، بعيدا عن المحسوبية والأنانية
والجهوية وفي إطار العمل الموحد.
بعيدا عن مجالك في الفن التشكيلي، ما هي أقرب الفنون إليك؟
جميل سؤالك لأنه
يحملني الى بعيد عندما كنت في السنة السابعة ثانوي وتحديدا عند حصولي على
البكالوريا. فكانت قائمة اختيارات
التّوجّه للجامعة التي كنت أحلم بها تتمثل في المسرح ثم الفنون الجميلة ثم
السينما. ولقد مارست هذه الأنشطة في فترة شبابي كهاو بمدينة صفاقس مسقط راسي. وكنت في نادي التقدم المسرحي ناشطا وشاركت في
أكثر من مسرحية وكنت أيضا في فريق التمثيل بالإذاعة الجهوية كعرضي. لكن وبعد
التّشاور مع العديد من ذوي الخبرة وبعد تفكير عميق، اخترت التوجه إلى الفنون
الجميلة. لكن تعلقي بالمسرح والسينما لا يزال في داخلي. وأتمنى يوما أن أجد متسعا
من الوقت لأنظم لفرقة مسرحية وأساهم فيها بخبرتي كفنان تشكيلي وكتعلق بمجال
المسرح. أما اهتمامي بمجال السينما فهو أيضا لا يزال يسكنني. فأنا مهتم بفن الفيديو
ولي تجارب في المجال. وحاليا بصدد دراسة مشروع هام يتعلق بوثائقي طويل ستكون لي
فيه مشاركة هامة.
يجب القول إن الفنون
اليوم أصبحت متداخلة. وهذا التداخل يثري تجربة الفنان ويمنحها مزيدا من التفرع.
أخيرا، حين تتجوّل في تونس العاصمة، كيف تراها بعين الفنان التشكيلي؟
تونس العاصمة نحبها
بمدينتها العتيقة المشبعة ذاكرة ونحبها أيضا بمدينتها الحديثة التي تم بناؤها في
زمن الحماية الفرنسية وهي أيضا جزء من تاريخها ولقد تم منذ عشريتين إعادة تهيئة
شارعها الرئيسي المسمى بشارع الحبيب بورقيبة فأضاف لها مسحة جمالية خصوصية. أما ما
تم بناؤه على أطرافها من أحياء شعبية أو فاخرة كالمنازة والمنارات فهو يفتقر جله إلى روح تميّزه. وفي كل الأحوال يمكن
القول إن حضور الفنان التشكيلي في تونس العاصمة عموما وفي كل المدن التونسية يكاد
يكون منعدما بقطع النظر عن بعض التجارب القليلة التي نعرفها. ويمكن أن يترجم هذا الحضور بإنجاز جداريات أو
منحوتات أو خزفيات أو تنصيبات أو بحضور الفنان نفسه في الشارع لتقديم عروضه في شكل
بارفورمونس. مثل هذه التّقاليد لم تترسخ وللأسف في بلادنا. ويتطلب ذلك بالطبع وعيا
كبيرا وبرنامجا صادقا من أصحاب القرار في وزارة الثقافة والبلديات. ويمكن أيضا
التأكيد على أهمية التعاون بين الفنان التشكيلي والمعماري وهو ما شأنه أن يضيف
خصوصية جمالية متميزة في بناءاتنا وشوارعنا. فالشراكة بين المعماري والفنان
التشكيلي قد حصلت في أهم المحطات التاريخية الفنية الغربية. ولقد كان تدريس الفنون
الجميلة والمعمار في تونس في نفس المعهد، إلا أن الشعبتين انفصلتا عن بعضهما منذ
الإصلاح الذي حدث سنة 1995 وكان ذلك خسارة فادحة.
لقد أصبح الشارع اليوم
في الدول المتقدمة، مجالا للإبداع الفني. ونرجو أن يكون كذلك في بلادنا في
المستقبل. فتأثيراته الإيجابية على سلوكيات المارة والجمهور عموما كبيرة جدا وهي
تربوية وثقافية وحضارية. ولنا من المبدعين الكثير في جميع القطاعات، لكن ما ينقصنا
هو سياسة ثقافية واضحة وذكية تكون بعيدة عن السياسة والمحسوبية والمصالح الشخصية
الضيقة.