"التطبيع" مفردة تعني في عموم دلالتها العودة بالعلاقات إلى طبيعتها. وتستعمل عادة إثر الحروب أو الخصومات بين الدول، وما يترتب عنها من قطع للعلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
وفي البلاد العربية نشأت مفردة "التطبيع" أساسا في علاقة بزيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس المحتلة سنة 1977، وما استتبعها من تنشيط مسالك التواصل والتزاور والتبادل.
ورغم ما انجر عن تلك الزيارة من عزل مصر عن محيطها العربي بقرار من الجامعة العربية التي انتقل مقرها وأمانتها العامة إلى تونس، فإن الكيان الصهيوني ظل يحرص على أن يُصبح "التطبيع" حالة عربية شاملة، فكان يحرص على أن يصبح مكونا أساسيا من النسيج الجغرافي والسياسي والاقتصادي للمنطقة.
يعرف أي مراقب بأن الكيان الصهيوني لا يؤمن قط بـ"التطبيع" مع العرب لطبيعة عقيدته التوراتية، ولكنه يخاتل من أجل استدرار مزيد من التعاطف الدولي معه ومن أجل تحييد أكبر قدر ممكن من المدخرات المقاومة لدى الأمة. لم يكن يسيرا على أي حاكم عربي (ما عدا السادات) أن يتجرأ على إعلان نية "التطبيع" مع "الكيان"، رغم الضغوطات السياسية والإقتصادية التي تمارسها الدول الغربية على العديد من الزعماء العرب، ورغم تكرر مسلسل المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، ورغم الوعود (التي لا تتحقق بإقامة) دولة فلسطينية قابلة للحياة.
تتعرض أنظمة عربية عديدة إلى محاولة تطويع عبر ربط مساعدتها الاقتصادية، وربط حصولها على قروض من بنك النقد الدولي بمدى إبداء استعدادها "للتطبيع" مع الاحتلال، ومدى إسهامها في عملية "السلام".. تلك الضغوطات أربكت وتربك الصف العربي الرسمي، وتوقع دائما القمم العربية في حالة من عدم التوافق، حتى انقسم العرب سابقا إلى "جبهة الصمود والتصدي" وإلى حلفاء أمريكا والغرب (حتى وإن لم ينخرطوا في عمليات "تطبيع").
اليوم وبفعل التحولات الدولية سياسيا واقتصاديا وعسكريا (خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي)، تغير المشهد كثيرا وتغيرت التشكلات، وتغيرت أيضا مشاريع "التطبيع" ضمن محاولات "العولمة" أو "الشرق الأوسط الجديد"، بحيث يُراد أن يتحول الكيان الصهيوني (ورغما عن الجميع) إلى مكون جغرافي وسياسي واقتصادي من بين مكونات المنطقة، بحيث لا تكون "عربية" وإنما "شرق أوسطية" منفتحة بالأساس على الكيان الصهيوني وتركيا.
يعرف الكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون أن "التطبيع" السياسي مع بعض الأنظمة ليس إلا حركة شكلية لا يمكن الاطمئنان إليها، ولا يمكن أن تتأسس عليها علاقات متينة ولا أن تقام عليها مشاريع مستقبلية بعيدة المدى، كما يَفترض واقع الدول.
يعرف الكيانُ أن تلك الخطوات المحتشمة أو السرية التي تُقدم عليها بعض الأنظمة إنما هي بدافع ضغوطات غير مقدور على تحملها، وأن لا علاقة لإرادة الأمة بها. يعرف الكيان ذاك أين تكمن إرادة الأمة، إنها ليست بين أيدي حاكم يريد أن يكون "زعيما" عربيا في مشاريع التسويات المائلة. تكمن إرادة الأمة في مخزونها الثقافي المؤسس على "عقيدة التحرر" وعلى الكرامة والعزة، ورفض كل أشكال التسلط والإذلال..
يعرف "الكيان" أن الذي يتهدده ليس القدرات العسكرية لدول الجوار، وإنما الذي يتهدده هي تلك العقيدة إذا ما استمرت عبر الأجيال في تعبيرات ثقافية متنوعة تحاصر "العدو"؛ فلا يتمدد لا في السياسة ولا في الأفكار ولا في الذائقة والعادات الاستهلاكية، لذلك يظل غير آمن ويظل يبحث عن "ضمانات" ثقافية تُكسبه بعض أمان وانشدادا للمستقبل. ولذلك هو لا يكف عن محاولاته باتجاه بعضٍ من النخب والمثقفين والجامعيين والإعلاميين والفنانين العرب؛ يستدرجهم بأساليب شتى نحو "تطبيع" تحت عناوين مختلفة أكاديمية، علمية، وإنسانية وغيرها.
لا خوف مما تتعرض له بعض الأنظمة العربية من محاولات تطويع وابتزاز قد تخضع لبعضها تحت عناوين المناورة ودفعا لمخاطر أكبر... ولكن علينا الانتباه إلى محاولات "التطبيع" الثقافي وما يمارسه بعض الماكرين من تجريع ناعم لسوائل ثقافية تضليلية وتحريفية تمهد لاختراق الوعي، وإعداد الأنفس للتعايش مع المغتصبين قتلة الأطفال والنساء والشيوخ والرجال.
لا خوف مما تتعرض له بعض الأنظمة العربية من محاولات تطويع وابتزاز قد تخضع لبعضها تحت عناوين المناورة ودفعا لمخاطر أكبر... ولكن علينا الانتباه إلى محاولات "التطبيع" الثقافي وما يمارسه بعض الماكرين من تجريع ناعم لسوائل ثقافية تضليلية وتحريفية تمهد لاختراق الوعي
حول تطويع الإمارات.. بين القمع والمبدئية وما بينهما!
ضررٌ وضرار.. محطّة التطبيع الإماراتية
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)