كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية في دولة عربية ما، تجدد الجدل حول جدوى المشاركة فيها، باستحضار تجارب سابقة غالبا تتباين التقييمات بشأنها، ففي الوقت الذي يعدها فيه مؤيدو المشاركة رافعة للمشاريع الإصلاحية رغم محدودية ثمراتها، ينظر إليها معارضوها بوصفها مشاركة شكلية لا تعدو أن تكون ديكورا يضفي مسحة من الشرعية الشعبية على أنظمة الفساد والاستبداد من الخارج مع نزوعها الدائم إلى سياسات الاستبداد والديكتاتورية المتجذرة في ذهنية نخبها الحاكمة.
ويجادل من يصفون المشاركة البرلمانية في كثير من الدول العربية بـ"العبثية" بأن جميع القوى والأحزاب والشخصيات السياسية المشاركة ليس بمقدورها إحداث الإصلاحات والتغييرات المطلوبة، ليس لقصورها أو عجز فيها، بل بسبب طبيعة النظام الذي يصهر الجميع في بوتقته، ويشكلهم وفق قالبه، ما يلزم منه تكبيل أداءاتهم جميعا بالأغلال التي تحددها مؤسسات الدولة العميقة وأجهزتها ذات الكلمة النافذة.
لكن مناصري المشاركة يلحون على ضرورة مشاركتهم مهما كانت فوائدها قليلة، وثمراتها محدودة، لأنه لا ينبغي للمصلحين أن يتخلفوا عن ميدان يتيح لهم إيصال رسالتهم ضمن هوامش الحرية المتاحة، ويمكنهم من المساهمة في الإصلاح ونقد السياسات العامة وتقويمها، وممارسة الرقابة على أداء الحكومات، والمطالبة بما فيه صالح البلاد والعباد في ظل دساتير الدول وقوانينها النافذة.
ومما نص عليه الفقه الدستوري في دساتير الدول الديمقراطية الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، لكننا في "عالمنا العربي البائس وليس اليائس، لا نعرف غير سلطة فعلية واحدة، وكأننا ما زلنا في العصور القديمة، حيث الفرعون أو الامبراطور أو الملك هو كل شيء، المنتج والمنظم والقانون" بحسب الكاتب والباحث السياسي الأردني، خالد عبد الهادي.
وأضاف لـ"عربي21": "وفق محاولة عبورنا لتخلفنا نقلنا عن الآخرين دون استيعاب تجاربهم، وبمعنى أدق قمنا بخطف شكل الديمقراطيات، وواجهة البرلمانات، وتعبيرات الأحزاب وعبارات الدساتير..".
ولفت عبد الهادي الانتباه إلى أن "جميع التجارب الحزبية: من يمين، ووسط، ويسار.. تمت تصفيتها، أو ضربها في بعض دولنا، ما أدّى إلى فراغ سياسي مهد لخروج نواب الخدمات، وفي البعض الآخر تم تصنيعها لتكمل زخرف الدولة: سلطة وعلما ونشيدا وطنيا وبرلمانا وأحزابا، فارغة من محتواها، لكنها ضرورية ضمن مقتضيات العصر والزمن".
ورأى أنه "لا قيمة في المدى المنظور لمحاولات المشاركة في أي إصلاح أو تغيير عبر الانتخابات البرلمانية، لسبب جوهري سبقتنا فيه أمم ومجتمعات، إذ القيمة الحقيقية لأي إصلاح سياسي إنما تكون تعبيرا صادقا عن حقائق اجتماعية واقتصادية وثقافية لتلبية حاجات مجتمعاتها".
وشدد على أنه من "دون مساءلة السلطة التنفيذية في عملية صنع القرار السياسي، ومشاركة الأحزاب والقوى والتيارات السياسية سواء الموالية منها أو المعارضة، فستبقى حالة الفراغ السياسي هي السائدة، ويبقى الطريق إلى الديمقراطية مسدودا".
من جهته قال السياسي والأكاديمي العراقي، زياد الصميدعي: "من المعلوم أن الأنظمة السياسية التي تتمتع بنوع كاف من الاستقرار السياسي هي تلك الأنظمة التي تمكنت من بناء آليات ومؤسسات تتيح أكبر قدر ممكن من الحراك الاجتماعي وتداول القوة الاقتصادية والسياسية بين أفراد المجتمع".
وأردف: "لذلك فإن الديمقراطية التي ينادي بها أي نظام سياسي لا تقاس من خلال عدد الأحزاب المرخصة لممارسة العمل السياسي، وإنما من خلال التداول السلمي والفعلي للسلطة بين الجميع، وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة، مما يترتب على ذلك آثار ملموسة على المستوى الواقعي بحيث تتاح المشاركة الشعبية، وتتكافأ الفرص لكافة أفراد المجتمع دون تمييز".
وردا على سؤال لـ "عربي21" حول مدى توافر ذلك في المجتمعات العربية، أكدّ الصميدعي أن "هذه الحقيقة لا تكاد توجد في أنظمتنا العربية رغم محاولات ظهورها بمظهر الديمقراطية، فالمشهد السياسي اليوم تسيطر عليه جهتان: الأولى، الدولة العميقة التي تسيطر على مفاصل الدولة وإدارتها ومن ثم تأثيرها على الانتخابات سلبا أو إيجابا، والتي من الصعوبة بمكان تفكيكها والقضاء عليها".
أما الجهة الثانية، فتتجسد طبقا للصميدعي بـ"القوى السياسية التي استطاعت بناء إمبراطورية مالية داخل هذه الدول، والتي باتت تؤثر على الانتخابات ومن ثمة المشاركة السياسية من خلال المال السياسي، وهو ما جعل المشاركة السياسية لغرض الإصلاح والتغيير بعيدة المنال، إذ الصعود والنجاح في المشاركة الانتخابية ـ على الأغلب ـ لا يمكن أن يكون إلا من خلال الجهتين السابقتين".
وفي الإطار ذاته رأى أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة صنعاء في اليمن، عبد الباقي شمسان، أن خيار الإصلاح عن طريق المؤسسة البرلمانية التشريعية في أصله خيار إيجابي لتحقيق الانتقال الديمقراطي، وإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يقوم على تفويض السلطة للحاكم مؤقتا، فيمنحه إياها مع الاحتفاظ بحق الرقابة والمحاسبة".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "لكن ما يقع في غالب الأنظمة الحاكمة الديكتاتورية أنها تقوم بإفراغ المؤسسات الديمقراطية من وظائفها الأساسية، فتجعل البرلمان امتدادا وظيفيا للسلطة التنفيذية، وبعبارة أخرى فإن القرار يصنع في مركز السلطة التنفيذية ثم يرسل إلى السلطة التشريعية لمنحه الصبغة الشرعية المطلوبة".
وتابع: "ومن الملاحظ أن الأنظمة الديكتاتورية التي تتذرع بالديمقراطية ظاهريا يوجد فيها اختلال كبير في أدوار السلطات الثلاث، وخلل في توازنها، وكله يصب في صالح السلطة التنفيذية، التي تتحكم في السلطة التشريعية تحكما شبه كامل، وكذلك تتحكم في السلطة القضائية بتعيين رجالاتها في مختلف المواقع والمناصب، كالنيابة العامة، كما أنها تمارس ضغوطا كبيرة على القضاة لتمرير سياساتها وقراراتها".
وعلل شمسان ذلك بأن "المجتمع لم يشهد تحولات فكرية وسياسية عميقة، بسبب رسوخ ديكتاتورية السلطة في المجتمعات العربية، ونظرا لضعف مؤسسات المجتمع المدني، ووجود خلل في البنيات الذهنية والاجتماعية والسياسية العربية السائدة، وهشاشة الأحزاب السياسية التي عجزت عن تنظيم المواطنين وتأطيرهم في إطار العمل الحزبي المؤسسي القوي، وهو ما يعني أننا بحاجة إلى وقت طويل، وعمل ممنهج ومثابر لتوطئة الأجواء والمناخات لإحداث تحولات فكرية وسياسية جوهرية".
بدورها قالت النائبة في مجلس النواب الأردني الحالي، ديمة طهبوب: "انطلاقا من فهمي للسياسة الشرعية، وإدراكا لطبيعة الأنظمة السياسية فإنني مقتنعة تماما بأن المشاركة البرلمانية هي الخيار الأصلي والأساسي الذي يجب العمل بمقتضاه، وليس التعاطي معها كحالة استثنائية، مع أن المقاطعة هي فعل سياسي كذلك إذا ما اقتضت الظروف ذلك".
وتابعت: "فالقوى الإصلاحية يجب أن يكون لها وجود وتمثيل في مختلف المستويات، سواء منها البرلمانية أو النقابية أو البلدية..، لأنها جميعها مؤسسات وقنوات لخدمة الناس أولا، ثم لإيصال رسالة القوى الإصلاحية عبرها، ولإقامة العدل والحق".
وعن جدوى المشاركة في ظل سياسات تكبيل المجالس النيابية عبر إخضاعها للسقوف التي تضعها أجهزة الدولة العميقة، أكدّت طهبوب لـ"عربي21" أن "الدولة العميقة في العالم العربي تهدف دائما إلى تقييد أي خيار يختاره الشعب ويتبناه، لكن ذلك لا يعني أن تصل الشعوب إلى حالة من اليأس، أو العجز أو عدم نجاعة هذه الخيارات، بل يجب عليها أن تقدم نفسها للمشاركة الجادة من خلال الوسائل المطروحة حاليا، وقد جربنا في سنوات سابقة خيار المقاطعة، لكنها لم تؤت أكلها، وكانت لها مضار وسلبيات كثيرة".
ورأت طهبوب أن "المشاركة ضرورية مهما كانت أعداد الإصلاحيين الواصلين إلى المجالس قليلة، أو كانت ثمراتها وفوائدة ضئيلة ومحدودة، فوجودهم يتيح لهم إظهار مواقفهم تحت القبة ولو كان رمزيا، وكذلك الوجود الفعلي بالتغيير في بعض الجوانب كالمجال الاجتماعي الذي ما زال مفتوحا للتغيير من خلال المستويات التمثيلية المختلفة".
وأردفت: "نعم ربما يكون التغيير السياسي والاقتصادي أقل من ذلك، وهو ربما يكون كذلك حتى على مستوى الحكومات صاحبة الصلاحيات والسلطة التنفيذية، التي لا تكون قادة على التغيير في بعض الأحيان لغلبة الصفة الوظيفية عليها، لذا فينبغي على السياسيين الإصلاحيين أن يكونوا موجودين في تلك المؤسسات، وعليهم كذلك أن يجتهدوا في رفع حالة الوعي في المجتمعات ولدى الشعوب".
ووصفت طهبوب المشاركة بـ"الخيار الاستراتيجي الأمثل ضمن المتاح والممكن" موضحة أن "معادلة الذكاء تقوم على تحصيل الممكن منها، مع محاولة رفع سقف هذا الممكن إلى سقوف أعلى، والاجتهاد الدائم والمثابر كي يكون للإصلاحيين موطئ قدم، وتمثيل أوسع".
وتساءلت في ختام حديثها: "لماذا نشعر نحن معاشر الإصلاحيين من ذوي المرجعيات الدينية باليأس والخذلان سريعا، في الوقت الذي نرى فيه جلد الآخرين ومثابرتهم أقوى وأشد لتحقيق أهدافهم" داعية الإصلاحيين إلى "اغتنام كل الفرص والمواقع المتاحة، مع ضرورة التحلي بالصبر والمثابرة، وهو ما لا يتأتى إلا عبر المشاركة الإيجابية والفاعلة في كل المستويات التمثيلية المتاحة".
بعد التشكيك بالشرع وشيطنة الإسلاميين.. وقت الحصاد
قوامة الرجال على النساء.. تسلط وذكورية أم تكليف ومسؤولية؟
الشيوعيون والبعثيون في العراق.. قصص اللقاء والصراع