بعد أن أصبح للرئيس دور مركزي في المشهد السياسي
التونسي (رغم محدودية صلاحياته الدستورية)، قد يكون علينا لفهم ذلك المشهد أن نستحضر جملة من المعطيات التي هي مقدمات ضرورية لما آل إلى الوضع من انسداد يكاد يعصف بالانتقال الديمقراطي برمّته.
بادئ ذي بدء، لا يمكن أن نهمل الخطاب السياسي للرئيس قبل حملته الانتخابية وخلالها. فالتونسيون يتذكرون جيدا قول "الخبير الدستوري" في ذلك الوقت،
قيس سعيد، بعد الاغتيالات السياسية زمن الترويكا متحدثا عن الطبقة السياسية كلها: "ليرحلوا جميعا بحكومتهم ومعارضتهم"، ولكنّ التونسيين لم يولوا أية أهمية (خلال الدور الثاني للانتخابات الرئاسية التي حكمها منطق الانتخاب العقابي لمنافس الرئيس نبيل القروي زعيم حزب قلب تونس) لغياب أي برنامج سياسي مفصّل للرئيس خلال حملته الانتخابية وقبلها، واكتفائه بشعار "الشعب يريد"، جاعلا من نفسه المسؤول الأوحد عن تحقيق تلك الإرداة (فهو لا يحتاج حتى إلى حزب).
ولعلّ أكثر ما أفاد الرئيس في تلك الانتخابات أن السياق قد جعل التونسيين غير مشغولين بسؤال "التناسب"، أي كيفية اندماج هذا الرئيس في منظومة حكم لم يطرح نفسه يوما شريكا للطبقة السياسية المهيمنة عليها، بل طرح نفسه باعتباره بديلا لمنظومتهم السياسية وديمقراطيتهم التمثيلية القائمة على توسّط
الأحزاب.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله فشل الأحزاب البرلمانية في إدارة المرحلة وفق انتظارات التونسيين، وعجزها عن بناء تفاهمات أو تسويات تستند إلى القانون المنظم للسلطات في النظام البرلماني المعدل، وأضفنا أيضا وجود تقاطعات مهمة بين ممثلي المنظومة القديمة وبين الرئيس (التبرم من عدم مركزة السلطة، الميل إلى النظام الرئاسي وتهميش البرلمان،
معاداة حركة النهضة، التطبيع مع المخزون البشري للنظام البائد، والتقارب مع فرنسا ومع خطاب "محور الشر".. الخ)، فإننا سننجح في فهم "البنية العميقة" للواقع السياسي التونسي الذي أدى إلى "حكومة الكفاءات المستقلة" المنتظر تقديمها للبرلمان بقصد
نيل الثقة يوم الأول من أيلول/ سبتمبر القادم.
تعيينات سكرات الموت
ومهما كان مصير تلك الحكومة، فإن المشهد السياسي في تونس سيشهد تحولات جذرية من الصعب التنبؤ بمآلاتها على وجه اليقين. ونحن لن نجد في تعريف هذه الحكومة أفضل من قول أحد رموز الأمن الجمهوري الحقيقيين في تونس (الناطق الرسمي باسم نقابة الحرس الوطني مهدي بوقرة) عندما علّق على تعيين إحدى الشخصيات المشبوهة في منصب متقدم في وزارة البيئة، واصفا إياه بأنه مظهر من مظاهر "تعيينات سكرات الموت".
ولكن قد يكون من الصعب (إلا بضرب من التعسف) أن نجزم بالطرف الذي سيحكم عليه مستقبل هذه الحكومة بالموت "سياسيا"، رغم أن سكرات "الموت السياسي" لن تعدوَ طرفين: فهي إما أن تكون سكرات موت الانتقال الديمقراطي والمنظومة السياسية/ الحزبية، بنجاح الرئيس في ضربها في مقتل مما يهيئ له تمرير مشاريع القوانين التي ستنقح النظام السياسي وتجعله نظاما رئاسيا في الحد الأدنى، وقد تمهد في الحد الأعلى لتغييرات أعمق تمس منظومة الحكم كلها إذا ما ذهب الرئيس في مشروع "
الديمقراطية القاعدية" إلى نهاياته المنطقية، وإما أن تكون سكرات موت مشروع الرئيس قيس سعيد بعد افتضاح التقائه الموضوعي بل تحالفه مع المنظومة القديمة، مع ما يعنيه ذلك من فقدان لرصيده الأخلاقي ولجزء من مصداقيته أمام جزء كبير من قاعدته الانتخابية، وكذلك ما قد يحدثه هذا الواقع الجديد من تحولات عميقة في مستوى علاقة الأحزاب ببعضها البعض أو برئاسة الجمهورية، بحكم المخاطر "الوجودية" التي تتهدّدها.
تناقض رئيس مع الديمقراطية التمثيلية وتناقض ثانوي مع المنظومة القديمة
لقد جاءت
تركيبة هذه الحكومة لتثبت أنه لا وجود لتناقض حقيقي بين رئيس الجمهورية وركائز المنظومة القديمة (اتحاد الأعراف واتحاد العمال والتجمعيين)، كما جاءت هذه الحكومة لتؤكد أنّ الرئيس لم يتخلص في أدائه السياسي من "الخبير الدستوري" المطبع مع المنظومة البائدة، ومع رساميلها البشرية والرمزية القائمة على منطق الزبونية وتبادل المنافع ومنطق الولاء قبل الكفاءة.
إننا أمام التقاء موضوعي صريح بين السردية الرئاسية الطهرانية وبين السردية البراغماتية التجمعية في مستوى تمثل معنيي "الكفاءة" و"الاستقلالية". وقد يدافع أنصار الرئيس عن هذا الواقع بأنه التقاء جزئي أو مرحلي، تحتاجه المرحلة للتخلص من الأحزاب التي هيمنت على المشهد السياسي بعد 2011 وفشلت في تحقيق استحقاقات الثورة، بل في تحقيق الحد الإصلاحي الأدنى لضمان كرامة المواطنين وأسباب معاشهم. وقد يزيدون على ذلك بالقول بأن رئيس الوزراء المكلف هشام المشيشي (ومن خلفه الرئيس قيس سعيد) قد حيّدا كل المعايير الأيديولوجية في اختيار أعضاء الحكومة، وأن ذلك الاختيار قائم على معايير موضوعية تتعلق بالكفاءة والاستقلالية. ولكننا إذا طبقنا شروط الموضوعية (القابلية للتحقق والاختبار مع ما يعنيه ذلك من قدرة على الدحض)، فإننا سنجد صعوبة كبيرة في التسليم للرئيس ووزيره الأول (فهو واقعيا غير قادر على القيام بدور رئيس الوزراء) بأن هذه الحكومة هي فعلا حكومة "كفاءات مستقلة"، اللهم إلا إن فهمنا الكفاءة على أنها أمر مرتبط بما سيكون لا بما كان (أي مرتبطة
بتوقعات قيس سعيد من وزرائه وحسن ظنه بهم)، وفهمنا الاستقلالية على أنها انفكاك عن كل مخرجات الانتخابات التشريعية السابقة من جهة أولى، وعدم التحزب لحظة التعيين لا قبلها من جهة ثانية.
فمن جهة الاستقلالية، قد يحتاج الرئيس (المولع بعدل الفاروق عمر) إلى فصاحة سحبان وعقل أرسطو ليُقنع المواطنين بتحقق هذه الصفة في وزراء مقترحين؛ يشهد تاريخ بعضهم بأنهم كانوا من قيادات بعض الأحزاب السياسية أو من المرتبطين بالحزب الحاكم وهيئاته وبلدياته وإدارته العميقة في زمن المخلوع. وهو اعتراض يزداد قوة في المقترحات التي يوجب الدستور على رئيس الحكومة استشارة الرئيس فيها، مثل وزارة الدفاع التي اختار لها المشيشي عضوا في آخر مجلس دستوري للمخلوع (أي أحد المهندسين للتعديلات الهادفة إلى الانقلاب على الدستور وعلى مبدأ العهدتين الرئاسيتين). أما من جهة الكفاءة، فلا نظن أن الرئيس و"وزيره الأول المكلف" مقتنعان بكفاءة شخص لا يتجاوز مستواه العلمي شهادة التقني السامي في السياحة، أو كفاءة أشخاص آخرين لا يذكر التاريخ لهم أية منجزات قد تنسي الناس ماضيهم السياسي المشبوه.
هل هو تقاطع مرحلي أم تحالف استراتيجي؟
كنا في مقال سابق قد رجّحنا أن يكون التقاطع الموضوعي بين الرئيس وبين المنظومة القديمة خاضعا لمنطق الاحتواء المتبادل (أي توظيف كل طرف لأرضية الالتقاء قصد تحقيق مشروعه السياسي الخاص)، ولكننا لم ننف فرضية أن يكون هذا الالتقاء التقاء استراتيجيا قصديا ومدروسا، سواء أكان ذلك بتخطيط محلي أم بتخطيط إقليمي ودولي لم يسبق بالضرورة نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فالرئيس الذي اعتبر الاحتلال "حماية"، واعتبر التطبيع شأنا سياديا للدول العربية يجب احترامه (أي هذا الرئيس الذي طبّع مع السردية الاستعمارية والتمس العذر لأحد عرّابي صفقة القرن)، لا يمكنه (مهما كان مشروعه السياسي الحقيقي) إلا أن يطبّع مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة لضرب من يحتل الحقل السياسي بعد الثورة بمنطق الشرعية الانتخابية.
فسواء أكان قصده من هذا التطبيع ضرب الحياة الحزبية ومخرجات الانتخابات والإرادة الشعبية"المزيفة" التي تتعارض مع الإرادة الشعبية الحقيقية، وتمرير مشاريع قوانين لتعديل النظام السياسي برمته صوب الديمقراطية القاعدية/ المجلسية، أم كان قصده الاكتفاء بتعديل النظام البرلماني المعدل نحو نظام رئاسي يعيد مركزة القرار في القصر الرئاسي ويقبل بتقاسم جزء من السلطة مع بعض الفاعلين السياسيين، فإنه قد اختار في هذه المرحلة أن يتقاسم السلطة فيه مع ممثلي المنظومة القديمة (الاتحادين والتجمع)، وفق تفاهمات لا يمكن الجزم بمضامينها النهائية بحكم وجود متغيرات قد لا يستطيع الرئيس ولا حلفاؤه التنبؤ بها، وبالتالي التحكم في مساراتها ومآلاتها.
twitter.com/adel_arabi21