للوطن، وهو الصنم الجديد، أسماء كثيرة، مثل الدولة والقانون والأمن القومي. والدولة أشمل وأعمّ من الوطن، فالدولة تشمل الوطن وحدائقه ومراحيضه وقوانينه ورئيسه وموظفيه ومجرميه، ولا تستثني الشعب المسكين أيضا، وحظ الفرد في الدولة العربية عدا الرئيس فيها قليل. الوطن من خصائص الدولة ومكوناتها.. الدولة كل، والوطن جزء. وهو حيّز مكاني للعيش، هو بيت الشعب، وقد تم تقديسه في الأناشيد المدرسية بالقوة والإكراه لغاية في نفس يهوذا.
الوطن الصنم يختلف عن أصنام الجاهلية، مثل هُبل واللات والعزى ويغوث ويعوق ونسرا، وإساف ونائلة. ولبعض هذه الآلهة قصص لطيفة، مثل قصة اللات التي جاء ذكرها في كتاب الأصنام لابن الكلبي وغيره: "وَاللاتُ بِالطَّائِفِ صَخْرَة مُرَبَّعَة وَكَانَ يَهُودِيٌّ يَلُتُّ عِنْدَهَا السَّوِيقَ وَكَانَ سَدَنَتَهَا مِنْ ثَقِيفٍ بَنُو عَتَّابِ بْنِ مالكٍ وَكَانُوا قَدْ بَنَوْا عَلَيْهَا بِنَاء وَكَانَتْ قُرَيْش وَجَمِيع الْعَرَب تعظمها".
ولم يثبت أنه كان للأصنام معتقلات مثل تدمر أو العقرب. ولإساف ونائلة قصة قد يُعجب بها محبو قصص الغرام والعشق، وقد يجدون فيها قصة فدائية من أجل التضحية في سبيل الحب، والقصة بطلاها: رَجُلٌ مِنْ جُرْهُمٍ يُقَالُ لَهُ إِسَافُ بْنُ يَعْلَى وَنَائِلَةُ بِنْتُ زيدٍ مِنْ جُرْهُمٍ وَكَانَ يَتَعَشَّقُهَا فِي أَرْضِ الْيَمَنِ فَأَقْبَلُوا حُجَّاجا فَدَخَلا الْكَعْبَةَ فَوَجَدَا غَفْلَة مِنَ النَّاس وخلوة فِي الْبَيْتِ فَفَجَرَ بِهَا فِي الْبَيْتِ فَمُسِخَا، وَلَمَّا مُسِخَا حَجَرَيْنِ وُضِعَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ لِيَتَّعِظَ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا طَالَ مُكْثُهُمَا وَعُبِدَتِ الأَصْنَامُ عُبِدَا مَعَهَا.
وكان من فضائل الجاهليين أنهم يفسحون لأصنام القبائل كلها أمكنة في الكعبة، من غير أجور، ولا كراء، أي أنهم كانوا علمانيين أكثر من علمانيي العرب المعاصرين، وكان بعض الناس يصنعون أصنامهم من العجوة فيأكلونها إن جاعت "وَكَانَ الَّذِي سَلَخَ بِهِمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَان وَالْحِجَارَة أَنه كَانَ لَا يظعن (يسافر) من مَكَّة ظَاعِنٌ إِلا احْتَمَلَ مَعَهُ حَجَرا مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ تَعْظِيما لِلْحَرَمِ وَصَبَابَة بِمَكَّةَ فَحَيْثُمَا حَلُّوا وضعوه وطافوا بِهِ كطوافهم بالكعبة تيمنا مِنْهُم بهَا وصبابة بِالْحرم وحبا بهَا".
والوثن المعاصر ليس حجرا لا يضر ولا ينفع فهو شديد القسوة وعظيم القوة وله آلاف العيون للتجسس على أعداء الوطن من أبناء الوطن، وينطق باسمه شخص واحد، هو الكاهن الرئيس أو السادن الملك، هو صنمه. وتصنع للصنم أناشيد كثيرة، وأغنيات، وأشاعوا أنّ حبَّ الوطن من الإيمان، وقد صار للكفر أقرب. حبه فطرة إذا كان وطنا حقيقيا مثل أوطان الناس والحيوانات. لا يحتاج إلى فروع مخابرات كي تجعلنا نحبه، فله فيه بيت وجيران وذكريات وأعراف، وهو ما انقرض تقريبا أو قلَّ في أوطان العرب المقدسة في الأناشيد والمدنسة في الواقع.
ثمة فروق بين أصنام الجاهليين المتقدمين وصنم الجاهليين المتأخرين نذكر بعضها:
- إن "الوثن" المعاصر يُمثَّل بتمثال الرئيس أو يُختصر بصورته أو باسمه، فالوثن الرئيس، والرئيس هو الوثن، هو رمز الوطن، بل إنَّ العائلة الحاكمة تتحد مع الوطن وتذوب فيه ويذوب فيها، فهو مقدس، وأي إساءة للرئيس أو نقد له أو شكوى منه تعدُّ تدنيسا للوطن وخيانة له، وإن كان الوطن نفسه بأنهاره وشوارعه وبيوته ملوثا، وأحياؤه عشوائية، وأزقته قذرة، وقد تدفن فيه نفايات الأوطان الأخرى العادية أو النووية، وهو ما لا يليق بالمقدس المعبود.
- إن الوثن القديم صغير قد لا يجاوز جرمه حجم الإنسان أو حجم الجمل، ويمكن تجنب تدنيسه بتحاشي زيارته، والنجاة من شرِّه، أما الوثن المعاصر فهو ديار وأنهار ووديان وجبال قابلة للتدنيس والاتهام والجباية والعقاب.
- إنَّ الرئيس المعاصر صاحب الوثن الحالي، وراكب ظهره، يبيع أجزاء من الوثن ويؤجر أجزاء منه. مثال ذلك الرئيس الأسد الذي أجرَّ موانئ الوطن وفنادق الوطن، والسيسي الذي تصدَّق ببعض جزر الوطن، وتهاون في ماء الوطن، على نقيض أوثان القدماء المقدسة لدى عابديها. وجاء في الأخبار أن هبل كان "مِنْ عَقِيقٍ أَحْمَرَ عَلَى صُورَةِ الإِنْسَانِ مَكْسُورَ الْيَدِ الْيُمْنَى أَدْرَكَتْهُ قُرَيْشٌ كَذَلِكَ فَجَعَلُوا لَهُ يَدا مِنْ ذهبٍ". وأن السادن المعاصر، وهو الملك أو الرئيس، غالبا ما يعبث بخريطة الوطن ويسرق زينة الوثن من آثار وثروات تمتعا بها. فالمقدس في خدمة الرئيس وليس الرئيس في خدمة المقدس.
- إنّ القرابين كانت تقدّم للإلهة والأصنام القديمة، وهي جمال ونوق وأبقار يأكل منها الناس جميعا، ولا يرد عنها سبع أو طير. وقد فُقدت في أيامنا، وإن وُجدتْ فهي قرابين من أحرار الناس وأكثرهم عقلا، وأبرّهم بشعبهم، تقدم على مذبح الوطن وغالبا بعد تعذيب شديد.
- ثمة فروق بين القداح القديمة والقداح المعاصرة والقداح تعادل الإجازة والرخصة: وَكَانَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ قُدَّامَهُ سَبْعَةُ أقدحٍ (قرعة)، مَكْتُوبٌ فِي أَوَّلِهَا صَرِيحٌ وَالآخَرُ مُلْصَقٌ، فَإِذا شكوا فِي مَوْلُود أَهَدَوْا لَهُ (للصنم) هَدِيَّة ثُمَّ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ فَإِن خرج صَرِيح ألحقوه وَإِن خرج ملصق دَفَعُوهُ. وكذلك تفعل المخابرات وهي أكثر من سبعة وسبعين فرعا، تضرب القداح (وهي أدوات تعذيب)، فإما أن يكون المواطن وطنيا أو خائنا.
وفي أيام الجاهلية، "إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ السَّفَرَ كَانَ آخِرَ مَا يَصْنَعُ فِي مَنْزِلِه أَنْ يَتَمَسَّحَ بِالصنم وَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ كَانَ أَوَّلَ مَا يَصْنَعُ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَتَمَسَّحَ بِهِ أَيْضا. وهو ما يفعله الواحد من الرعية المعاصرة، بالتمسح بالمخابرات، سعيا في الحصول على تأشيرة السفر أو إذن الزواج أو التجارة أو الوظيفة.
- إنّ أصنام الجاهلية الأولى كانت أرحم بالناس من الوثن المعاصر، فالحجر لا يضرُّ ولا ينفع، والكاهن هو المتكسّب من
الأوثان، وهذا ليس تحليلا أو تفسيرا، فقد قاله الرسول الكريم. ودليل ذلك أنه لما بعث النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيد فَقَالَ لَهُ إيت بَطْنَ نَخْلَةٍ فَإِنَّكَ تَجِدُ ثَلاثَ سمرات، فَاعْضُدِ الأولى فَأَتَاهَا فعضدها (قطعها)، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ شَيْئا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاعْضُدِ الثَّانِيَةَ. فَأَتَاهَا فَعَضَدَهَا ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتَ شَيْئا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاعْضُدِ الثَّالِثَةَ، فَأَتَاهَا فَإِذَا هُوَ بِحَبَشِيَّةٍ نافشةٍ شعرهَا واضعةٍ يَديهَا على عاتقها تصرف بأنيابها وَخَلفهَا دبية بن حرمى الشَّيْبَانِيّ ثمَّ السُّلَمِيُّ وَكَانَ سَادِنَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهَا فَفَلَقَ رَأْسَهَا فَإِذَا هِيَ حُمَمَةٌ (امرأة سوداء). ثُمَّ عَضَدَ الشَّجَرَةَ وَقَتَلَ دُبَيَّةَ السَّادِنَ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ تِلْكَ الْعُزَّى وَلا عُزَّى بَعْدَهَا لِلْعَرَبِ، أَمَا إِنَّهَا لَنْ تُعْبَدَ بَعْدَ الْيَوْمِ.
- أن الآلهة القديمة كانت تقبل المشاركة في العبادة والتأله، أما الرئيس فلا يقبل بشريك لا في الأرض ولا في السماء، فهو ينتقص من دين الشعب إما بتهديم المساجد بالمبنى أو بالمعنى، وذلك بالخطباء المفسدين.
- إن العرب الأقدمين سيبوا السائبة وبحروا البحيرة ووصلوا الوصيلة وحموا الحامي، والرئيس يسيّب القانون والدستور ليدعس الناس في الشوارع، فهو في هذا يسير على آثارهم!
لا بد من إنصاف آلهة العرب القدماء مقارنة بالوثن الجديد، فأوثان القدماء مسكينة تستحق الشفقة والصدقة، ولا تقدر على الحركة لأنها كانت أسيرة البيت العتيق أو المعبد، أو لأن بها إعاقة دائمة. ومن حسناتها أنها لم تكن تأكل الحرام ولا الحلال، ولا تمشي في الأسواق، ولا ترعب الناس، ولا تشنُّ الحروب كما يفعل الرئيس الذي لم يكفَّ عن الحرب على الإرهاب منذ أن تولّى منصبه.
وكانت الأوثان القديمة صامتة خرساء، لا ترفع المفعول به ولا تنصب الفاعل مع أنه مسكين ولم يفعل شيئا، ولا تجرُّ الحرائر إلى السجون، ولا تحارب دين الشعب ولا تسرق لقمة عيشه. هناك شبه وحيد بينهما وهو الرقص: الأوثان القديمة والوثن المعاصر تتوصل بالرقص إلى الناس.
twitter.com/OmarImaromar