حيل أم ألاعيب أم تكتيكات سياسية؟ سنختلف في التسمية بحسب الموقع مع التحالف السياسي الجديد في برلمان
تونس، لكن الاختلاف في النعت لن يخفي الحقيقة أن هذا التحالف قائم الآن، وعليه اعتمدت
حكومة المشيشي لتنال الشرعية القانونية، وهو يعد بالمزيد من العمل السياسي في البرلمان لتجاوز الصراعات والمعيقات التي أعقبت انتخابات 2019.
من هؤلاء الحلفاء؟ وما الذي جمعهم الآن وهنا؟ وكيف سيعمل الحلفاء السياسيون؟ وما هي أجندتهم؟ وإلى أين يمكن أن تحمل تونس في المستقبل؟
حلفاء مختلفون في الظاهر
حزب إسلام سياسي بأجندة متغيرة في كل فصل، ولكن بثوابت التموقع في المشهد السياسي كحتمية وكضرورة حيوية لا يجوز التفريط فيها، يلتقي مع حزب قلب تونس الذي لم تحدد فكرته ولا بنيانه ولا هويته السياسية، ولكنه يملك كتلة برلمانية عامرة ببقايا منظومة التجمع، وهمها إعادة التمكن من السلطة وترسيخ وضع الحزب الوريث للمنظومة.. وكلاهما يتحالفان ويلحقان بهما أو يعتمدان على شريك ثالث، هو ائتلاف الكرامة الذي يصنف كخلية يقظة للنهضة أحيانا، ويصنف كمجموعة شباب منتمين للثورة ويكرسون مطالبها، ويعلنون عداء صريحا لمكونات المنظومة القديمة وخاصة اليسارية منها، ويطرحون رغم قلتهم مطالب الاستقلال والسيادة.
لا شيء يجمع الفرقاء لكنهم اجتمعوا، فعلى ماذا اجتمعوا وقد سبق لهم أن اختلفوا بعد الانتخابات؟
الأحزاب الثلاثة كانت ضحايا إقصاء الأحزاب الأصغر منها عددا وتمثيلية في البرلمان، فقد عانت كثيرا من تسلط أحزاب التيار وحركة الشعب وحزب تحيا تونس (يوسف الشاهد)؛ الذي زعم امتلاكه ميراث منظومة ابن علي وحزب النداء (وارث عن وارث).
الأحزاب الثلاثة هذه أسقطت حكومة
النهضة الأولى (حكومة الحبيب الجملي) وفرضت الفخفاخ بديلا، رغم افتقاده لسند برلماني. وأوشكت بتحالفها مع الحزب الفاشي أن تعصف بمكانة الغنوشي السياسية والأدبية، لكنها سقطت مع حكومة الفخفاخ ووجدت نفسها في المعارضة، ويقوم أمامها تحالف جديد غير متجانس من حيث التكوين والأفكار ولكنه متفق على خطوط سياسية تبدو واعدة بإنجازات كبيرة على المستوى السياسي، وقد تحدد معالم العمل السياسي في السنوات القادمة.
يمكن أن نصف التحالف بأنه تحالف ضحايا المزايدة الثورية التي تكشف عن حكومة برئيس فاسد، وبأنه تحالف يلتقي ضد الرئيس
قيس سعيد الذي ما انفك يهين الأحزاب ويحتقر دورها ويرغب في تجاوزها في الميدان، ورغبة خاصة في حشرها في برلمان مطيع يصادق بصمت على خطته غير المعروفة بعد.
ولكل سببه، فالنهضة والغنوشي بالتحديد يتعرض إلى عملية تهميش وتحقير منهجية من قبيل الرئيس (حتى إنه لم يدعه إلى حضور احتفالات يوم العلم)، بينما يعتبر نبيل القروي (مؤسس ورئيس حزب قلب تونس) منافسا في الرئاسية لقيس وقد خرج مهزوما، بينما يعتبر ائتلاف الكرامة أن من قبّل كتفي رئيس فرنسا لا يحق له قيادة تونس نحو الاستقلال والسيادة. وهذه أسباب مختلفة ولكنها جمعت الفرقاء الثلاثة.
ماذا يمكن أن يفعل هؤلاء معا؟
توجد أجندة سياسية أعلن عنها الغنوشي في اجتماع مع أنصاره في نهاية شهر آب/ أغسطس في صفاقس (معقل من معاقل الحزب)؛ تقوم على خطوات محددة، وهي تمرير حكومة المشيشي رغم انطلاقها من مبدأ تجاوز الأحزاب. وبتمريرها ربح فترة
هدنة طويلة المدى لترتيب أوضاع البرلمان، والمرور إلى الخطوات التالية.
أهم فقرات الأجندة تعديل قانون انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية لتمر بأغلبية 109 وليس بثلثي عدد النواب، بما يجبر الرئيس على تعيين بقية الأعضاء وإلا يوضع في وضع المتهرب من استحقاق دستوري ليحتفظ بسلطة تأويل الدستور على هواه. وهذه زاوية ضيقة عليه أن يخرج منها تحت ضغط البرلمان والشارع. فإذا قامت المحكمة سيفقد ما نسب لنفسه من استحقاق تأويل الدستور، ويمكن أيضا الذهاب إلى إثبات مخالفته للدستور، وهي الحالة التي يمكن فيها سحب الثقة منه وعزله.
الخطوة الثانية من الأجندة تتضمن
تعديل القانون الانتخابي بفرض عتبة انتخابية، وإلغاء أو تنسيب قانون أكبر البقايا، بما يحرم الكثيرين من دخول البرلمان وخاصة الأحزاب الثلاثة التي أدخلت أغلب نوابها بنظام أكبر البقايا. في حال تمرير التعديلات المذكورة فإن الأحزاب يمكنها ممارسة ضغط على كل المشهد السياسي بتقديم موعد انتخابات تشريعية تعيد تشكيل المشهد برمته، وخاصة بإقصاء كتلة معارضة متنمرة بعد خسارتها لمواقعها مع حكومة الفخفاخ.
الخطوة الثالثة هي إسناد حكومة المشيشي في الأشهر القادمة لتبدأ عملية التنظيف الاقتصادي والنقابي الذي أعاق كل العملية التنموية بعد الثورة. هنا لم يعلن التحالف عن أية
أجندة اقتصادية، بعد سوى الحديث العاطفي عن المصلحة الوطنية وضرورة تخفيف التوترات الاجتماعية وتسهيل حياة الناس (هكذا بلا كراس برامج واضح في إسناد الحكومة)، إلا أن يكون تسريع سن القوانين التي قد تقترحها الحكومة في هذا الاتجاه.
هل يمكن أن يصمد هذا التحالف طويلا؟
لقد أثار التحالف في أسبوعه الأول ردود فعل حادة جدا من قبل الخاسرين مع الفخفاخ، بما يكشف أن أجندة التحالف المفصلة أعلاه ترعبهم. نُشرت مقالات يستشف منها هلع بالغ وتحيز مكشوف ضد حزب النهضة، عصب هذا التحالف ومهندسه، مع حملة تشنيع طفولية ضد ائتلاف الكرامة الذي سبق له أن أعلن مواقف عدائية ضد حزب قلب تونس ليتقرب إلى الأحزاب الثورية فتقززت منه كما لو أنه يحمل جربا معديا. وأمام انكشاف الثورية المزيفة للثوريين وجد الائتلاف نفسه يقترب ثم يتحالف مع القلب، مستغنيا عن مفردات ثورية كان يرددها ومقدما خطابا واقعيا.
هناك عناصر قوة يملكها التحالف ترتبط خاصة بزعاماته السياسية. فالقروي يسعى إلى الاندماج في مشهد سياسي دخله زاحفا ثم وقف متطاولا ضد ثوريين استفادوا من قناته التلفزية ولعنوه سياسيا، وهو يفكر في الانتقام أو رد الاعتبار لشخصه، وهذا التحالف يضمن له ذلك، كما يضمن له تمكين قيادات حزبه ببعض الغنائم السياسية التي ما كان لينالها لو بقي في معارضة الحكومة الحالية. قوة حزبه الآن تؤهله للبقاء في المشهد سنوات أخرى، والاستيلاء على كل قاعدة التجمع التي تنافس عليها الكثيرون وفاز منها بالنصيب الأوفر. ونراه في المستقبل القريب يشن حربه ضد الفاشية ليستولي على قاعدتها، ولو دون رغبة شركائه.
والتمكين للفترات القادمة سياسيا هو نفس طموح ائتلاف الكرامة الذي يشتغل على الاستحواذ على كل الخطاب الاحتجاجي ذي الخلفية الأصولية لمن لم يعد يجد هواه في حزب النهضة، فضلا عن ترسيخ قدميه ضد الخطاب الثوري الذي انكشف أصحابه بانكشاف تحالفهم مع الفخفاخ والشاهد.
أما حزب النهضة فهو الآن في مكان مريح. فبعد سرقة فوزه بانتخابات 2019 فإنه يعود مستحوذا على حكومة الرئيس بإسنادها والإملاء عليها دون إشهار إعلامي، حيث نرجح أن المشيشي عرف وقدّر أن بقاءه مرهون بهذا التحالف لا برغبة الرئيس وأجندته المعادية للأحزاب، وهو
الموقع الذي يريده الغنوشي لحزبه ولشخصه. فالتحالف يضمن له بقاءه في مكانه كرئيس برلمان، ويضمن له تحريك خيوط السياسة على هواه دون خشية العودة إلى تصويت سحب ثقة بعد ستة أشهر.
ولا نظن هنا أننا أول الواصلين إلى هذه التقديرات والترجيحات. فالذين يصرخون الآن بخسارتهم عرفوا قبلنا أنهم خرجوا من المشهد السياسي حتى 2024، بل فقدوا قدرتهم على التحشيد بخطاب مقاومة الفساد (
التيار) وخطاب تحرير فلسطين، بعد انكشاف حليفهم الذي يقبّل أكتاف عتاة الاستعمار بعد أن "لحس" خطاب الخيانة العظمى
وعانق المطبعين.
هل يذهب التحالف إلى تسريع الانتخابات التشريعية قبل أوانها، أم يكتفي بتسيير البلد من موقع قوة بما يفتت خصومه بالقطعة؟ هذا متروك للأيام، وإن كنا نعتقد أن التحالف الآن في موقع تحديد الأدوار ورسم السياسات برويّة من لم يعد يخشى خصما حقيقيا. وقد كان توتر الرئيس
في خطاب القسم خير كاشف للمزاج الذي خلقه هذا التحالف لدى خصومه الذين يحسبون الآن خساراتهم.