(1)
حدث في أحد الأزمنة القديمة أن حكيماً تولى أعلى سلطة في بلدٍ كان يحكمه الجهلاء، حتى أن الناس تشبعوا بالجهل وتشبهوا بسادتهم الجاهلين. وأراد الحكيم أن يعلمهم بالتجربة، فأصدر قراراً بتعيين حماره رئيساً واعتزل
السلطة، متوقعاً أن الشعب سيغضب ويعلن تذمره من سوء الخدمات وانقطاع الحوار وتدهور الأحوال، لكنه فوجئ بالشعراء ينظمون قصائد المديح في "الرئيس الحمار"، وفوجئ بكبار رجال الدولة يربون ذيولهم ويستبدلون الكلام بالنهيق، وفوجئ بالتجار يتنافسون في تجارة البرسيم وأنواع الأعلاف التي يفضلها المسؤول الأعلى، وفوجئ بأعداد كبيرة من الجماهير تتدافع للحصول على "العلف الرئاسي".
وللأسف لم تقل لنا الأسطورة شيئا عن مصير الحكيم، لأن المؤرخين اهتموا بتاريخ الحمير وانصرفوا عن متابعة أقوال وتجارب الحكيم المثالي الحالم.
(2)
ما حدث في الزمن القديم صار قانوناً في الأزمنة التالية، مع استثناءات قليلة، بل إن المسافة الفاصلة بين الإنسان العاقل والحمار تلاشت إلى حد كبير، وتداخلت الصفات والمواصفات والطباع للدرجة التي جعلت مصطلح "الحيوان السياسي" يدخل بقوة وتقدير إلى مجال العلوم السياسية. لكن مغزى التجربة القديمة للحكيم "الإمبريقي" ظل موازياً للواقع السياسي البراجماتي، ليكشف لنا عن الفروق الدقيقة في حقل السياسة بين "الحمير الأصليين" و"الحمير المتحولين" أو "المنافقين" و"المستلبين" و"التابعين" و"المقلدين بحمورية انبهارية"، وبين القلة التي احتفظت بإنسانيتها متحملة آلام الاغتراب وعنصرية المتحولين.
(3)
قصة الحكيم ليست نادرة ولا منكورة، برغم أنها لم تحدث بحذافيرها في التاريخ، لكن الناس يرددونها باقتناع كبير في كل الأزمنة، حتى أن الكاتب المسرحي سعد الله ونوس كان مشغولاً بها وصاغها في أكثر من مسرحية، لعل أشهرها "الملك هي الملك" التي يتولى فيها أبو عزة السكير الحكم فيصبح ملكاً، تطبيقا لمقولة ونوس: "أعطني تاجاً أعطك ملكاً". إذا لا يهم عقل ولا أخلاق ولا ثقافة الملك، المهم هو التاج والمنصب..
كذلك ذهب ونوس في مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" التي اتفق فيها الناس على تشكيل وفد يذهب إلى قصر الملك الظالم للشكوى من مفاسد فيله المفضل، الذي كان يتلف مزروعاتهم وحياتهم كلها، وتدرب الناس على الشكوى بأن يقول قائدهم: الفيل يا ملك الزمان، فيكمل الجموع: قتل عبد الرحمن الحويطي.. هدم بيت إبراهيم وبيوت الفلاحين.. يكسر النخيل.. يفتح الطريق لإسرائيل.. يتلف الزرع ويدوس الطعام.. يظهر الموت أينما بان.. يحبس الجميع ويجعل الرعية بلا أمان..
ولما وقف الحشد أمام الملك سألهم عن غرض المقابلة، فقال قائدهم زكريا: الفيل يا ملك الزمان..
لكنه فوجئ بصمت الجموع وسؤال الملك: ما خبر الفيل؟
عاد زكريا ليقول: الفيل يا ملك الزمان، ولم ينطق الناس.
قال الملك غاضباً: كاد صبري أن ينفد، تكلم.. ما خطب الفيل؟
نظر زكريا إلى الناس فإذا هم واجمون لا ينطقون من أثر الرهبة والرعب، ولم يكن أمامه إلا أن ينقذ رأسه من القطع، فتدارك الموقف قائلا: الفيل بحاجة لفيلة تخفف وحدته وتنجب عشرات، بل مئات الفيلة.
ارتفعت قهقة الملك وقال بسعادة: أقول دائما لحاشيتي إني محظوظ برعيتي.
(4)
كثيراً ما أتذكر قصة انتصار بيروس الأبيري، وأتذكر معها دراسة "آلان دونو" عن "المديوكريت".
بيروس كان قائد حرب معارضا لروما العظيمة. لم تعجبني حروبه، لكن معارضته لروما هي التي أعجبتني، كما أعجبتني نهايته بحجر على يد بائعة خضروات في الشارع، وأعجبتني المقولة التي تبقت من سيرته الحربية..
ففي إحدى المعارك الفرعية حقق بيروس انتصاراً محدوداً على جيوش روما، لكنه عندما تفقد ساحة المعركة بعد الحرب وشاهد آلاف الجثث من جنوده، قال قولته الشهيرة: "انتصار آخر كهذا وننقرض". وهذا ما يذكرني بإنجازات "المديوكريت" التي ينفق فيها قادة الرداءة أثمانا باهظة ليحققوا القليل، لكن التاريخ الذي تكتبه "الحمير" لا يتذكر الأثمان الباهظة، ويكتفي بتسجيل المآثر والآثار والانتصارات التي خلفها القادة "العظام"، بينما هم في الحقيقة ركبوا ظهر السلطة وركبوا بعدها كل شيء حتى التاريخ..
(5)
في مقال هجومي بطعم الحروب الانتخابية، حذرت صحيفة "واشنطن بوست" من استمرار ترامب وقالت بطريقة بيروس: "فترة أخرى لدونالد وننقرض". فالرئيس المديوكريتي الضحل يتوهم أنه "حكيم الفلاسفة" الأعلم من الجميع، لذلك يحتقر المستشارين العلميين ولا يثق فيهم، ومثل كل الذين يحكمون بالقوة الغاشمة، يكره "الرئيس المديوكريتي" القراءة والنقاش والتنظير ودراسات الجدوى، ويعتمد على شطحاته وخبراته الشخصية المحدودة، ما أدى لاستقالة نصف المسؤولين المحترفين وإقالة النصف الثاني، ومن بقي من التكنوقراط تم التعامل معه باحتقار وتهميش، حتى تكاد تسمع تعبير الحاكم: كاد المستشارون ورؤساء الأجهزة يبوسوا رجلي علشان ما اتكلمش بس أنا صممت أتكلم.
(6)
صفة "الحمار" الواردة في هذا المقال لا تشير إلى أي تحقير، فالحمار كائن عملي مفيد للبشرية عبر تاريخه، كما أنه من ناحية الرموز السياسية يشير إلى "بايدن" وليس إلى "الفيل ترامب"، فالعبرة في هذا المقال لا تنطلق من نوع الحيوان، العبرة بالظلم والعدل، بالعلم والجهل، بسوء الاستخدام وحسن الاستخدام. فالحمار الجيد يحمل ولا يحكم، وبالتالي فإن الهجوم اللفظي والسياسي على الحمار يحدث عندما ينحرف عن دوره المفيد ويتولى موقعا لا يناسب "قدراته الحميرية"، لهذا يكون الهجوم وظيفياً وسياسياً وليس عنصرياً.
(7)
وددت لو كانت لدي قدرة نفسية وذهنية على مناقشة قرار تنظيم المباني المخالفة في مصر (بالهدم أو التصالح)، لكن ماذا يفيد النقاش في وضعٍ كهذا الذي يعيشه العالم تحت حكم هؤلاء؟!
الوضع صعب جداً، وهو (كما أوضحت) ليس جديداً، لكنه مأساة تاريخية تتكرر كثيراً، لذلك أشعر أنني (على المستويين الشخصي والعام) أعيش مأساة "بيرانجيه" في ذروة عزلته بعد أن تحول سكان العالم "اليونسكوي" إلى خراتيت، وزارته حبيبته (ديزي) لتقنعه بالخرتتة:
"لم يبق في المدينة بشر سوانا يا بيرانجيه.. لماذا لا نلتحق بهؤلاء الصاخبين السعداء؟ إنهم لطفاء.. إنهم آلهة جديدة!
(8)
كنت في سالف العمر معجباً بمطرقة نيتشة ومحرضاً على الهدم، لم أعترض في شبابي على سياسة ماو تسي تونج في محو القديم وتدمير المعوقات لكي يفسح الأرض للجديد، ولم أتوقف عند مساوئ ثورته الثقافية التي تلوثت بالقمع والدم.
وقبل 15 عاما كتبت مقالا بعنوان "ثورة الشك"، عن تشابه كلماتي مع كلمات كوندوليزا رايس في الدعوة لشرق أوسط جديد، كنت مدفوعا بقصيدة "الجسر" للمنتحر احتجاجاً خليل حاوي: ".. يعبرون الجسر في الصبح خفافاً.. من كهوف الشرق من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد.. أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد (..) سوف يمضون وتبقى، فارغ الكفين، مصلوباً، وحيدا (..) متى نظفرُ، نشتدُ، ونبني بيدينا بيتنا الحر الجديد؟".
(9)
هذا زمن الالتباس.. سنوات الخداع التي تختلط فيها المعاني، فينطق الجهل ويخرس العلم، ويدخل الشرفاء السجون ويغني اللصوص أغنيات الشرف. في هذه الأيام ينطق حاكما مثل السيسي بلسان تشومسكي عن ضرورة "البناء عبر التدمير"، ويقترب في ظاهر اللغة من آليات التدمير الخلاق التي روج لها فيلسوف الجباية "جوزيف شومبيتر" وتبنتها الإدارات الأمريكية (بحميرها وفيلتها لا فرق) كعواصف كارثية تهدف إلى زلزلة استقرار العوالم المتخلفة، ليس بغرض تحديثها، ولكن بغرض استغلالها وامتصاص ثرواتها، وهو ما يفعله السيسي تحت غطاء التحديث والتنظيم العمراني والتخلص من العشوائيات.
إذ يبدو واضحاً أن الغرض الحقيقي والرئيسي هو امتصاص الأموال من جيوب الفقراء وأرصدة الأغنياء عبر حزمة من قرارات المغارم العامة، بعد أن استهلك "الحاكم البيروسي" أموال القروض الخارجية في انتصارات سيكولوجية وهمية "باهظة الثمن"، لذلك يرغب في توقيع الغرامات وتوسيع الجباية الشعبية لتمويل الإنجازات التي تشبه "انتصار الانقراض".
على كل حال، لا ينبغي أن نراهن في القريب العاجل على انقضاء هذه الفترة، ولا على انتهاء توابع الزلزال الكوني، ولا ينبغي أن نستسلم ونتحول إلى حمير أو خراتيت، ولا ينبغي أن ننافق ونطالب الملك بتزويج أفيال
الفساد والإفساد خشية البطش. علينا أن نبذل الجهد للحفاظ على إنسانيتنا برغم كل هذه الأهوال، وعلينا أيضا أن نتدرب على تحمل القهر والعزل والغربة والألم بعد أن شربت الأغلبية من نهر الذيول!
tamahi@hotmail.com