لم نجد عصرا استخدمت فيه السلطة الفتوى كعصر حكم العسكر، وبخاصة في زمن حكم السيسي، فرأينا فتاوى تخرج ـ للأسف ـ تبرر كل ما يقوم به السيسي، سواء كانت قتلا، أو تشريدا، أو إعداما، أو قتلا خارج القانون، وكله بالفتوى، ترسل لدار الإفتاء ومشايخ السلطة، وليس عليهم سوى التوقيع، والتبرير، والتدليل على صحة الفعل بالكذب على الشرع.
لكن أخطر ما رأيناه مؤخرا عندما أقدمت السلطة على إزالة عدد من المساجد، بدعوى المصلحة العامة، وأنه يجوز لهذا الغرض، وتارة بحجة أنها مساجد مخالفة، فقد بنيت على أرض ملك للدولة، أو أخذت من حرم الطريق، وكلها دعاوى باطلة لا تقوم على دليل شرعي، فضلا عن مخالفتها الأدلة الصحيحة القاطعة ببطلان مثل هذه الفتاوى.
وآخر ما أراد به التبرير لفعل السلطة، فتوى تصدر عن مستشار مفتي مصر، بأن الصلاة على الأرض المغصوبة، أو وضع اليد، فقال حسب تصريح موقع جريدة الشروق المصرية: (ونسأل هل يجوز الصلاة في أرض تم أخذها غصبًا أو وضع يد فنقول: لا يجوز، وهو مثل من يشرب الخمر ويصلي، مشيرًا إلى أن أرض مغتصبة ويصلي فيها الشخص كيف يكون ذلك؟ وكأنك متلبس بمعصية). وما قاله مستشار المفتي نفس ما يقوله سعد الهلالي، وغيره من مشايخ السلطة في تبرير ما تقوم به من هدم المساجد.
وكان يمكن تفهم قولهم لو كان الكلام علميا منزوعا عن واقع مخالف، وهي قضية ناقشها العلماء والفقهاء، وهي مسألة الصلاة على الأرض المغصوبة، فقال الشيرازي في المهذب: ولا يجوز أن يصلي في أرض مغصوبة، لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة، فلأن يحرم في الصلاة أولى. وقال النووي في شرحه لكلام الشيرازي: الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع. لكن جمهور أهل العلم على صحة الصلاة فيه مع الإثم، وخالف الحنابلة فذهبوا إلى بطلانها. والإثم يكون على من اغتصب الأرض، وعلى كل مصل عالم بذلك..
هذا هو الموقف الفقهي المجمل من الصلاة على الأرض المغصوبة، أو الصلاة في الثوب المغصوب، وهو كلام صحيح، لكن هل هذا الكلام ينطبق على المساجد التي تهدم في مصر؟ هل هي مساجد بنيت على أرض مغصوبة؟ وما معيار الحكم بغصبها؟ وهل ما يطبق على المساجد يطبق على الكنائس، ودور العبادة الأخرى لغير المسلمين؟
إن ما يقول به الفقهاء في الصلاة على الأرض المغصوبة، مقصود به أرض خاصة بشخص، وقد قام بسرقتها أو غصبها شخص آخر، أو مجموعة من الناس، فأقاموا عليها مسجدا، ولم يقبل بذلك صاحب الأرض ورفض، وطالب باسترداد أرضه، عندئذ يقضي الشرع الإسلامي برد الأرض له، أو دفع مقابل مادي يقبله صاحب الأرض، فإن أصر من غصبوا الأرض، وحولوها لمسجد، فهي هنا موضع الفتوى المذكورة سابقا.
لا ينكر أحد إجازة العلماء هدم المسجد لو اعترض طريقا عاما يفيد كل الناس، مقابل أن يبنى بديل له، لو قال ذلك مشايخ الإفتاء لهان الأمر، لكن الكارثة أنهم كيفوا المسألة في هدم كثير من المساجد على أنها أرض مغصوبة؟ وحق مسلوب من الدولة!!
لكن الفتاوى التي تخرج وتدلس على الناس، ليس هذا موضوعها، فالقضية كالتالي: إن أرضا كانت شائعة، أو أرضا ملكيتها ملكية عامة لكل الناس، فقام مجموعة من الناس ببنائها، سواء بإذن مسبق من الدولة، أو بدون إذن، وغالب المساجد يتم بناؤها عن طريق الأهالي بجهودهم الذاتية، فلم يعرف في دولة العسكر أنهم أوقفوا أرضا أو بناء، أو بنوا مساجد، بل يبني الشعب المساجد ثم تأممها الأوقاف لتتبعها، فكيف تم ضم هذه المساجد ـ التي تهدم الآن ـ للأوقاف لو كانت على أرض مغصوبة؟
فلو فرضنا أنها مغصوبة، فكيف يغصب الشعب أرضا هي ملكه؟ ثم نقول: إنها مغصوبة؟ إن تكييف الحالة فقها: أن المجتمع قام ببناء أرض يملكها شرعا، لبناء مسجد لخدمة عامة للمسلمين، وهم المجتمع، فمن يملك الأرض التي لا صاحب لها؟ إنه المجتمع، أو الدولة، فكيف يتهم المجتمع بأنه سرق نفسه، فقام ببناء مسجد على أرض موقوفة أو موهوبة للدولة لخدمته؟
وإن قالوا: إنها بنيت بغير إذن من الدولة؟ فكيف إذن تم تقنينها كمسجد طوال هذه السنوات، وكانت تتبع الأوقاف إدارة وإمامة وأذانا، وكل تفاصيل المسجد، ومعروف أنه منذ نهاية عهد مبارك، لم يبق مسجد خارج إدارة الأوقاف إلا القليل جدا، ممن يتبع جمعيات قانونية مثل الجمعية الشرعية في مصر. فلو فرضنا أن هذه المساجد بنيت بوضع اليد، فقانون وضع اليد معروف في مصر، وهو: تقنين مثل هذه المباني، لو كانت منفعة خاصة لشخص، بعد مرور (15) عاما على وضعه يده، ويدفع مقابل لها، بحسب تقييم الدولة لها، شريطة ألا ينقطع آخر خمس سنوات عن هذه الأرض. فما بالنا لو كانت الخدمة عامة، وليست لشخص؟
ثم السؤال الأهم: من غصب أرض من؟ هل الشعب هو من غصب أرض الدولة، أم دولة العسكر هي من اغتصبت أرض الشعب، وأوقاف المسلمين؟ لقد جاء عبد الناصر، وقام بتأميم أوقاف المسلمين، ومنها أراضي شاسعة لا نهاية لها، فالمغتصب الحقيقي للأرض وللوقف الذي له حرمة كبرى في الإسلام، هم العسكر، وليس الشعب الذي قام ببناء مساجد من ماله الخاص، على أراضي وقفت لخدمة المسلمين، ثم قامت الدولة بالاستيلاء على المساجد إدارة وامتلاكا، ولم يعترض الشعب، لكن كانت الكارثة أن يقوموا بعد ذلك بهدمها، بحجة أنها أرض مغصوبة!!
ولا ينكر أحد إجازة العلماء هدم المسجد لو اعترض طريقا عاما يفيد كل الناس، مقابل أن يبنى بديل له، لو قال ذلك مشايخ الإفتاء لهان الأمر، لكن الكارثة أنهم كيفوا المسألة في هدم كثير من المساجد على أنها أرض مغصوبة؟ وحق مسلوب من الدولة!!
وفي المقابل اشتهر فيديو شاهده كثيرون على اليوتيوب، لأحد كبار القساوسة، يبين كيف أنهم قننوا أوضاع كنائس بنيت على أرض زراعية، وأراضي وضع يد، وهناك كنائس قننوا وضعها بالهاتف وليس لها أوراق، كما أوضح، وكان في سياق حديث يحرض الأقباط في مصر على انتخاب السيسي، وتأييده والوقوف معه، لأنه فعل لهم الكثير، وبخاصة في بناء الكنائس.
إن ما يحدث في مصر، من تنكيل بالمساجد وهدمها، وعدم المساس بدور عبادة الآخرين، يذكرنا بشاعر مصري ساخر في العصر المملوكي اسمه الحسن بن خاقان، رأى وضع الأقلية في مصر يفوق حقوق الأكثرية، والأكثرية لا قيمة لها ولا حقوق، فقال:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
المجد فيهم والمال عندهمو ومنهم المستشار والملك
يا شعب مصر إني قصد نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك!!
Essamt74@hotmail.com