الحمد لله، أنني عشت، ومدَّ الله في عمري ورأيت هذا المجد، الذي ذكّرني بأمجاد الجوارح وابن الوهاج ومفيد الوحش وأبو شملة، فقد قرأت أسماء عشرات السوريين المتفوقين الحائزين على العلامة التامة، ومرّة بعلامة فوق التامة في بلاد الفرنجة وبلغة غير اللغة التي يصفونها بالأم وليس باللغة الخالة، واللغة الخالة تكون قريبة من اللغة الأم.
نال سوريون "أبو عذرة" اختراعات كثيرة، وأبو عذرة هو الإسم العربي "للأيزو"، لكني لم أرَ سوريين مثل الزوجين السعيدين أنس وأصالة. والعاشقان السعيدان الرائعان في جنة بلاد "وزارة السعادة" وفردوس "وزارة اللامستحيل"، يذكّران بقصص الحب الجميلة الغاربة مثل: قيس وليلى، جميل بثينة، عروة وعفراء، وربما إساف ونائلة، وربما بصدام حسين الذي ظهرت صورته على طغراء القمر.
وقد يجد أمثالي الذين طبع الله على قلوبهم أنه ليس لهم من أسمائهم نصيب، فليس فيه أُنس، ربما كان أُنسه لا يتجاوز ثلاث دقائق، والأصالة في اسم البطلة قليلة ربما معدومة، وهما فصيحان، فهما يلحنان بالإنجليزية، تقدميان وحضاريان، مثقفان، وجميلان، إنهما لا يشبهاننا، إنهما بطلان من بوليوود أو هوليود.
وقد تعبت من مدة الفيديو الذي بثَّ "الايفنت"، فسرّعته، وعذبت نفسي بمشاهدته، وقد يجد من طبع الله على قلبه مثلي، أنه يمكن لهذين السوريين العربيين المسلمين أن يتفوقا على نجوم السينما الهندية بالشهرة، ووصفتهما بالمسلمين لأنني رأيت أم أحدهما محجبة، وتسبّح الله وبحمده، حسب السكريبت، وأخت أحدهما على السجادة تدعو أن يرزق الله أختها مولودا ذكراً، فالجميع يحبّون المواليد الذكور، وقد نفاجأ غداً بأنَّ المولود أنثى، وأنَّ رعاة البقر، عفواً، رعاة البرج خدعونا، وليس الذكر كالأنثى، أو أن يكرم "الأيفنت" السعيد في فردوس البرج الأعلى، ويسجل في سجلات الصالحين الأبرار.
وفي الفيديو دراما وربما ميلو دراما، وربما يكون تمثيلاً، فصاحب الفيديو "يوت يوبر"، و"اليوت يوبر" ـ والتفصيل والتمثيل بالإسم هنا ليس غيرة وحسداً، إنما للحفظ والتعريب، يهمّه الربح والمشاهدين، والنجاح غير الفلاح، والغاية تبرر الحصيلة، ووسيلته بسيطة، فلم تتجاوز كلفة الفيديو سوى تسعين ألف دولار، وهي أقل من تكاليف حلقة من حلقات "رامز واكل الجو"، وقد كرّمه أصحاب البرج الكرام فأعفوه من دفع أجرة الدقائق الثلاث! بل هو يستحق أجراً، فقد أشهر البرج، وجعل دبي عاصمة لتسعة ملايين "فانز".
أثبت هذا اليوتيوبر أنَّ سورياً يستطيع أن يأكل الجو والبر والبحر من غير حيل ولا ممثلين، وقد ربح أضعاف المبلغ الذي دفعه، من ريع المشاهدات وعواطف الحب وعواصف الدموع وزوابع الفرح أيضاً، لكننا قوم "بهت"، نحن الذين نؤمن بأنَّ الغاية لا تبرر الهبيلة.
نفكر هكذا:
أنه كان يمكن أن يعدَّ بفلوس الدقائق الثلاث على أطول برج في العالم، مائدة للجوعى في إدلب، فلن تسمح السلطات له بمدِّها في دمشق حرصاً على صلابة الشعور القومي، وتوقياً من توهين الأمة. وستمنع الإدارة الذاتية إعدادها في الحسكة خشية من شبهة الإقطاعية والرجعية وظهور صور أردوغان، وأسباب أخرى لا تخفى على المشاهد.
ويكون طول السماط كيلومترا، تكون عيداً لأولنا وآخرنا، فتصير مائدته أشهر من العشاء الأخير للمسيح عليه السلام، وتنتشر على صفحات السوريين والعرب والمؤمنين والكفار، وقد يدخل كتاب غينيس المقدس أيضاً.
كان يمكن أن يجري بها عمليات جراحية للعميان الذين أعمت شظايا البراميل عيونهم، والعرجان الذين قطعت الأنقاص سيقانهم، ويداوي بها جروح الجرحى ويسلو بها قلوب النساء المغتصبات في المعتقلات وهنَّ بالمئات في المنازح والوطن.
كان يمكن أن يُحفر بها أربعين بئراً تشرب منها الناس والبهائم والطير حتى الروى.
كان يمكن أن يعمل بمبلغ الدقائق الثلاث، وليس بأرباحه، مسابقة للشعر والقصة والرواية، ترفع من شأن الأدب وتنسينا الحساب وإحصاء الضحايا وحسرة الجغرافيا المتآكلة والمسروقة.
كان يمكن أن يزور الزوجان السعيدان أحد مخيمات النازحين هو وزوجته وابنته، ويحتفلان بالمولود القادم بوليمة أو عقيقة يدعو إليها كل المخيم، فيخلد في الذاكرة، ويذكر في السماء أيضاً.
كان يمكن أن يفتتح بها مدرسة للصم والبكم والعمي، أو للمبصرين والناطقين والسامعين، فهم محرومون من المدارس.
كان يمكن تعزية ملايين الثكالى بالمبلغ؟
كان يمكن فتح عشرة أفران بخبزها وجبنها ولحمها.
كان يمكن أن يشترى بها ثياباً للنازحين تدفئهم أو تسترهم.
كان يمكن شراء قصر في الجنة.
كان يمكن أن يمنع طائر أبو منجل من الانقراض، فنزوجه ويظهر اسم على برج خليفة.
كان يمكن عمل مسودة للدستور السوري أقل سواداً من المسودة الحالية ما دام والده عضواً في الائتلاف العظيم.
كان يمكن شراء أرض للمقابر الجماعية، نضع فيها الشواهد من غير جثث، ونزورها كحديقة للترويح عن النفس.
كان يمكن عمل أشياء كثيرة بالمبلغ الذي علمنا مؤخراً أنه لم يدفع، فهو هدية من رعاة الشاء الذين تطاولوا بالبنيان، لكنه جرحنا جرحاً لا يندمل، لقد أسقط علينا برميلاً من غير نار.
لقد سرق منا شيئاً ثميناً لا يعوّض؛ وهو أننا عبدنا البرج الذي سينافس كعبة المسلمين قريباً، وسيطوف الناس حوله.
أُعلن جنس المولود: بني آدم، ذكر، وقد يفتح الله على يديه القدس، فافرحوا يا أولي الألباب.
الإرهابُ للشعوب والتطبيعُ للأنظمة
لماذا ترفض اليونان خفض التصعيد والتفاوض مع تركيا؟