إن الحديثَ عن شخصية عامة جامعة كشخصية الشهيد الدكتور
عصام العريان حديثٌ ذو شجون، يختلط فيه الدعوي مع السياسي، والنقابي مع الإنساني. إذ أن شخصيته الثرَّة الغنية المتنوعة تشمل ذلك كله في تداخل مُتقن ينبئُ عن شخصيةٍ متميزةٍ مذ كان طالبا في المرحلة الجامعية، وحتى استشهاده في سجون الطاغية في 13 آب/ أغسطس 2020.
الدكتور عصام طراز فريد، يتفاعل مع الأحداث يتفجر حيوية ونشاطا، سريعُ البديهة، وحاضرُ الفكرة، يجهرُ بالرأي حتى ولو كان مثيراً.. إنه واحد من أولئك الذين صاغتهم دعوة
الإخوان وربتهم على الإسلام وبه.. فعلمُهُ وتواضعُهُ واستقامةُ ضميره وجودُهُ وورعُهُ، ومثابرتُه على العبادة - وهو الحافظ لكتاب الله - وصدقُ استمساكه بالقدوة.. إذ رؤيت فيه كل سمات التفوق وأمائر الصلاح، وحسب الرجل بذلك أن يحرز مكانه العالي بين الأبرار والصالحين.. تلك الخصال صاغ بها ومنها الشهيد شخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة المستقيمة.. وهذه روعة الإسلام حين يدخل إلى النفس الوثَّابة فيجدد فيها كل طاقاتها.
إن مقالتي هذه لن تتحدث عن هذه الشخصية الفذَّة إلا من خلال علاقتها بقضية الأمة وقلبها النابض
فلسطين ومواقفه المشهودة فيها، حيث كان متفاعلا معها قلبا وقالبا في كل مواقعه التي شغلها منذ شبابه وحتى النهاية. فقد ذكر موقع "عربي21" بتاريخ 15 آب/ أغسطس 2020 ما يلي: "انتخب عصام العريان عام 1986 عضوا بمجلس إدارة أطباء
مصر، وشغل منصب الأمين العام المساعد لها، فقام بتشكيل مؤسسة شعبية تهدف إلى الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني تحت مسمى ملتقى التجمعات المهنية لمناصرة القضية الفلسطينية"، يهدف إلى جمع جهود هذه النقابات والتجمعات للوقوف والعمل لقضية فلسطين.
كما أنه لم يبخل - رحمه الله - بوقته وجهده في مساندة أيّ من قضايا الشعب الفلسطيني، وفضح إجرام الكيان الصهيوني تجاه فلسطين وشعبها، فكلما سمع هيعة أو فزعة تخص فلسطين طار إليها يبتغي العون والمساندة، وللفطرة الإنسانية نهج لا يتخلف، وسنة لا تتبدل، فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة.
فقد ذكر قطب العربي في مقاله في عربي 21 بتاريخ 16 آب/ أغسطس 2020 عن الشهيد أنه "في العام 1992 أبعدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مئات الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى منطقة مرج الزهور على الحدود اللبنانية (في جريمة إبعاد قسري لمواطنين عن أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم) توافدت عليهم وفود الدعم والإسناد من كل حدب صوب، وكان الشهيد عصام في طليعة تلك الوفود الواصلة إليهم بعدما سافر إلى سراييفو لمتابعة جهود الإغاثة لمسلميها الذين تعرضوا لحرب إبادة في الفترة ذاتها (1992-1995م)"، حيث أقام بين المبعدين لفترة من الوقت، واطلع على أحوالهم وتضامن معهم وشد من أزرهم.
وأما مواقف الشهيد أثناء وجوده كعضو في البرلمان في دورات مختلفة، فهي مشهودة معروفة، حيث كان يطرح القضايا التي تخص هموم الأمة ومنها قضية فلسطين.
ويوم أن قام الصهاينة بالاعتداء على غزة في حرب 2008-2009م، ظهر الشهيد في فيديو مسجل له بثته شبكة القدس الإخبارية أثناء حفل تضامني مع المظلومين في غزة، حيث ألقى كلمة قوية جاء فيها: "قال الله تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.. (سورة الحج: 39-40)". ثم أردف قائلا: "هذه الآيات تنطبق على أهل فلسطين الذين أُخْرِجوا من فلسطين.. الذين أُخْرِجوا من حيفا وعكا وصفد.. وغيرها من المدن الحبيبة، والتي يجب أن نحفظ أسماءها، وأن نعرف تاريخها.. والذين (أيّ: الفلسطينيون) يصرون كل الإصرار على العودة إلى بلادهم وإلى أرضهم وإلى بساتينهم ولا يفرطون فيها أبدا.. لذلك لم يشهد التاريخ.. أصعب ولا أشرس من تلك المؤامرة التي جرت على شعب فلسطين وأهل فلسطين.. وأنا على ثقة أن شعب فلسطين سينتصر، وأن الأجيال القادمة ستشهد هذا النصر إن شاء الله كما قال الله تعالى.. قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". وأضاف قائلا: "هم على باطل ومغتصبون ومجرمون وأيدهم ملوثة بالدماء..".
ومن ثم وجه التحية لصمود الشعب الفلسطيني في أرضهم تحت القصف والإجرام الصهيوني، حيث قال: "لم ينقل عن شخص واحد أو امرأة واحدة ممن ثُقلوا في أولادهم أو بناتهم.. لم ينقل عن شخص واحد أنه يريد أن يستسلم للعدو.. أو أن يطرد رجال المقاومة أو أن يتخلى عنهم.. هذه هي الروح التي يقاتل بها الفلسطينيون بكافة توجهاتهم، وبكل فصائلهم اليوم في غزة..".
وأضاف: "لسنا معكم فقط بدعائنا.. ولسنا معكم فقط بهتافاتنا.. ولسنا معكم فقط بحناجرنا.. ولكننا على الأقل نقدم النزرَ اليسير من قوتنا وقوت عيالنا.. على أمل أن تُفتح أمامنا الحدود لنكون معكم بأرواحنا لنقدمها فداء لفلسطين وفداء للمسجد الأقصى وفداءً للمستضعفين في الأرض..".
لقد كان الشهيد واضحا في وقوفه إلى جانب المستضعفين، وأنه مستعد لأن يبذل روحه في سبيل ذلك. وهذا ليس مستغربا على الشهيد وبخاصة أنه ابن مدرسةٍ كان لها السبق في إرسال المتطوعين إلى فلسطين قبل النكبة 1948م وأثناءها، حيث خاض رجالها معارك بطولية فوق هضاب القدس وربى فلسطين، وشهد القاصي والداني بطولاتهم ودفاعهم عن فلسطين في وجه العصابات الصهيونية، وتحريرهم لكثير من الأراضي أو منع سقوطها بيد الصهاينة. ومع ذلك فقد تم التآمر عليهم بعد عودتهم مباشرة من قبل النظام آنذاك، الذي زجَّ بهم في السجون رغم إشادة كبار ضباط الجيش المصري بهم وبشجاعتهم وببسالتهم في الدفاع عن الأماكن التي كانوا يقاتلون فيها ضد الصهاينة في عدد من الأماكن، وبخاصة في مدينة القدس وضواحيها.
لقد كان الشهيد واضحا في آرائه يعلن ما يؤمن به ولا يخاف لومة لائم، إلا أن بعض المتصيدين - وبخاصة من خصوم الإخوان - كانوا يستغلون مثل هذه الآراء الصريحة للهجوم عليه وعلى دعوته، كما حصل في حوار له مع قناة دريم الفضائية بتاريخ 12 أيلول/ سبتمبر 2012، وكذلك كرر هذه التصريحات في مداخلة هاتفية على قناة "أون تي في" في برنامج "بلدنا بالمصري" بتاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر 2012 حيث دعا فيها "اليهودَ المصريين في الكيان الإسرائيلي للعودة إلى مصر بعد فشل فكرة إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين".
وقال لحافظ الميرازي في مقابلة على قناة دريم في 22 أيلول/ سبتمبر 2012: "يا ريت اليهود بتوعنا يرجعوا لنا كدة من أجل أن يفسحوا مكان للفلسطينيين.. يعني الفلسطينيون يرجعوا بلدهم.. واليهود العرب يرجعوا بلدهم إن شاء الله..". وأضاف أن "اليهود المصريين اللي (الذين) طردهم عبد الناصر.. طردهم ليه؟ دول راحوا شجعوا الاحتلال.. كل مصري له الحق أن يعود إلى وطنه وبخاصة أنه سيعود ليفسح المجال للفلسطينيين.. أنا عايز الفلسطيني يرجع بلده.. حق العودة حق لا يمكن إنكاره ولا يمكن التنازل عنه..".
ومن ثم خاطب اليهود المصريين في الكيان الصهيوني بقوله: "أنتم ليه تعيشوا في كيان عنصري؟ ليه تعيشوا في كيان احتلال؟ ليه تبقوا ملوثين؟ دي جرائم حرب سيُعاقب عليها كل قادة الاحتلال، ولن يفلتوا من العقاب..".
وأضاف واصفا هؤلاء الصهاينة: "هؤلاء مجموعة من المستوطنين الذين سرقوا فلسطين ولا زالوا.. وحاربونا في ثلاث معارك، وقتلوا الجنود المصريين، ونهبوا سيناء.. إنهم أعداء، ومواطنون في الكيان الصهيوني، وهربوا من مصر ليقيموا في دولة على أشلاء العرب والمسلمين".
هذه التصريحات الواضحة أشد الوضوح في تأييد حق الشعب الفلسطيني في أرضه وحقه في العودة إليها، ووصفه الصهاينة باللصوص والسراقين، وأنه كيان عنصري واحتلال، وغير ذلك من الأوصاف الواضحة والصريحة، لم تشفع له عند بعض أصحاب الأقلام المأجورة من بعض العلمانيين والخصوم السياسيين وبعض المحسوبين على الإسلاميين، كتصريحات نادر بكار من حزب النور في صحيفة الشروق بتاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر 2012، حيث قاموا بمهاجمته بتحريض واضح من بعض الأجهزة بزعم أنَّه بهذه التصريحات سيفتح النار دوليا على مصر.
لقد كانت مواقف الشهيد من قضية فلسطين واضحة جَلِيَّة كالشمس في رابعة النهار دعما ومناصرة وإسنادا وجهرا بحق الفلسطيني بأرضه كلها، وبحق عودته إليها كاملة غير منقوصة.
لذلك فقد بادل أهل فلسطين هذا الود والوفاء بمثله إذ نعت حركة المقاومة الإسلامية حماس الشهيد في بيان لها بتاريخ 14 آب/ أغسطس 2020 حيث قالت في بيانها: "بموته - رحمه الله - فقدت القضية الفلسطينية أحد الرجال المدافعين عنها، والداعمين لمقاومة شعبها..". وأردف البيان: "إن العريان كانت مواقفه مشهودة في نصرة فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك". كما علَّق المركز الفلسطيني للإعلام بتاريخ 13 آب/ أغسطس 2020 على استشهاده بالقول: "وعُرف (أي الشهيد) بدفاعه الدائم عن القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وكانت له مواقف خالدة أثناء العدوان الصهيوني على قطاع غزة 2008-2009م".
كما نعت هيئة علماء فلسطين في الخارج د. عصام العريان ووصفته بالشهيد، وقالت في بيانها بتاريخ 13 آب/ أغسطس 2020: "فإننا في هيئة علماء فلسطين في الخارج ننعى إلى الأمة الإسلامية جمعاء الشهيد - بإذن الله تعالى - والقيادي والداعية والمفكر الإسلامي الدكتور عصام العريان الذي قضى نحبه مظلوما في سجون الانقلاب التي زج به فيها النظام المصري عقب الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي".
كما لم يتأخر المرابطون من أهل بيت المقدس وفلسطين في المسجد الأقصى في القدس عن القيام بالواجب تجاهه، حيث أدى المئات منهم صلاة الغائب داخل المسجد الأقصى المبارك على روح الشهيد. وقال إمام صلاة الغائب في كلمة له نقلتها قناة الجزيرة مباشر يوم الجمعة 14 آب/ أغسطس 2020 قبل أداء الصلاة: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه..عاهدوا الله أن يقولوا كلمة الحق.. عاهدوا الله ألا يفرطوا بحق المسلمين.. عاهدوا الله ألا يعترفوا للاحتلال بذرة تراب من أرض فلسطين". وأضاف: "نذكر أخانا وقائدنا الدكتور عصام العريان، ومن قَبْلَه ممن وقفوا شامخين في وجه الباطل.. من المسجد الأقصى المبارك نصلي عليه، وعلى كل إخوانه ممن قتلوا ظلما في سجون الطواغيت".
وأخيرا.. أيها الشهيد المظلوم..
سلامٌ عليك.. وأنت ترقد فوق أرض مصر التي ثوت فيها رفاتُك.. في أرضٍ صُلْبةٍ لم تدمْ يوما لطاغية.. لتشهد أنك ما خضعت يوما لظلم.. ولا طأطأت لطاغية، وارتفعت إلى العُلا، وأنت منتصب القامة مرفوع الهامة.. ولعل ذلك أجدى بك وأجدر حتى تظل مكانتك في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة حاضرة كبطل قام فجهر بكلمة الحق ثم اعتلى حبل مشنقة في غياهب سجن طاغية مستبد.
سلامٌ عليك إذ التحقت بالملأ الأعلى، وصَعَدتَ على أجنحةِ الشوق إليه تاركاً للحياة عبيرَ رجلٍ صادقٍ واضحٍ جواد.. عبيرَ رجلٍ أمينٍ على كل ما للأمة وفلسطين من ذمة وعهد وميثاق، فحجزتَ لك - بإذن الله - مكانا في عليين، إذ كنت على وعدٍ هناك مع النبي المصطفى وصحبه - عليهم الرضوان - ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار وحسن أولئك رفيقا.