تجانب الصواب شتى مناهج وأطر البحث الأكاديمي التي تتناول "الظاهرة الاستعمارية الصهيونية"؛ دراسة ومقارنة وتحقيقا بعيدا عن حقل "علم نفس اللصوص". وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، الخاصية العنصرية الأصيلة في التكوين الصهيوني ذي الثقافة والمنبع التوراتي، فسنجد أن نوع "لصوصية الدولة" هنا يتميز بالأنانية المثقّلة التي لا تعبأ بالآخرين، إلا فيما يؤثر بهذه الدرجة أو تلك على مركّب الأنانية.
أصيب اللصوص الصهاينة بالارتياع عندما نشب الربيع العربي في فورته الأولى، كما أصيبوا بخذلان إدارة أوباما التي لم تلتفت كثيرا لنصائحهم المتعلقة بضرورة انتقاد بعض كنوزهم الاستراتيجية كحسني مبارك مثلا، وخافوا كثيرا على إنجازاتهم الكبرى في حملة الهجوم "الصليبي" على العالم الإسلامي التي بدا أن إدارة جورج بوش الابن، قامت بها نيابة عنهم ولأجلهم بعد هجمات أيلول/ سبتمبر 2001.
ولأن اللصوص الصهاينة لم يتخلوا عن وظيفتهم في التخريب والإفساد؛ فقد انبروا لنصب المكائد وحبك المؤامرات لإعاقة الشعوب عن تحقيق أهدافها، والمحافظة على حجزها ومنعها من النهوض والانعتاق.
منذ بداية الربيع العربي مثلت دولة
الإمارات - وإلى حد كبير السعودية - الحاضنة التي استقبلت من نجح من الهاربين من قيادات الأجهزة الأمنية المرتعبة، التي كانت عنوانا للظلم والقهر والعفن والتجبر والاستبداد (في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن). فقد تجمّع في الإمارات العدد الأكبر من هؤلاء، ممن يعتبرون متخصصين في قمع الشعوب، وبالذات في ملاحقة واضطهاد الحركات الإسلامية التي شكلت وجه المعارضة الأول في العقود الأربعة الأخيرة في العالم العربي.
وكان جاسوس
إسرائيل الأشهر "محمد دحلان" (القائد السابق لجهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة، ثم مستشار الأمن القومي الفلسطيني الذي تولى قيادة الأحداث الفتنوية المشبوهة في قطاع غزة بهدف تجريد حركة حماس من فوزها الانتخابي بعد 2006) قد سبق الجميع بعامين إلى الإمارات، منذ خلافة الشهير مع رئيسه محمود عباس، الذي كان اتهمه في خطاب علني شهير يوم 12 آذار/ مارس 2014 أمام المجلس الثوري لحركة فتح بالخيانة والعمالة للاحتلال، وقدم أدلة وإثباتات ولائحة اتهام حافلة. وكانت حصيلة نتائج اللجنة تحقيق داخلية في حركة فتح، تتمثل في فصله منها؛ سواء كقائد وعضو لجنة مركزية، أم كعضو عادي.
واتخذ دحلان بصفته هذه من الإمارات وكرا للتجنيد والتجميع وحبك المؤامرات، وتفرغ لهذه المهمة وجنّد فيها طاقاته وخبراته وعلاقاته، وأحدث بالدرجة الأولى اختراقات معتبرة في الأسر الحاكمة، والحاشية المقربة من بلاط الحكم في غير دولة عربية أو أفريقية وآسيوية. ووجد المال الخليجي (الذي لا تأكله النيران) ذراعا صهيونيا كدحلان ومن يقف وراءه، رجلا يمكن استثماره في إشعال الحرائق والخلافات في دول الربيع العربي، التي شهد غالبها حروبا أهلية طاحنة، ومثلت هذه الحروب - من وجهة نظر صهيونية - أكبر من مجرد عقاب الشعوب على ما فعلته، بل أرادت أن تستثمر فيها من حيث اندلاق الشهية لابتلاع المزيد والمزيد من السرقات، خاصة وأن تلك الحرائق تجعل من الإقدام على المزيد من السرقات، بمثابة جوائز مستحقة وناضجة للحصول عليها.
اخذت دوائر التخطيط الاستراتيجي الصهيونية بعد فشل أوسلو (في كامب ديفيد 2000) - وقبل الربيع العربي بسنوات طويلة - بالبحث عن صيغ لصوصية تناسب الأطماع الصهيونية، فقد طرحت فكرة إقامة الدولة الفلسطينية (التي ذكرتها
صفقة القرن أخيرا) منذ أكثر من عقدين على أن يكون قطاع غزة مركزها، تتمدد غربا إلى سيناء على أن يتم تعويض مصر عقاريا بمساحة معينة (أقل طبعا) من جنوب صحراء النقب.
وعندما جاء الربيع العربي أخذت شهية العدو المنفتحة تتحدث عن عمل على إقناع الولايات المتحدة أساسا، ثم ما أمكن من الدول الأخرى، بالاعتراف بالسيادة الصهيونية على الجولان، على أن تأخذ سوريا مساحة بديلة من الأردن، وهذا يأخذ بديلا من السعودية (التي لها فائض أراضي) في نوع من المداورة المعقولة التي تناسب حسابات اللص الصهيوني.
سعى اللص الصهيوني إلى الاحتفاظ بدوره المعلن وغير المعلن، في حرائق المحيط العربي، وبالأخص في سوريا، وعندما تدخلت الدول على نحو أكثر علانية ومباشرة وسفورا في الشأن السوري: دبلوماسيا عندما وضعت المسالة السورية على مائدة الدول الكبرى في جنيف، أو ميدانيا بالدخول في الاشتباك المادي المباشر، فحضرت روسيا وأمريكا وإيران وتركيا وغيرها بجيوشها وترساناتها. لم يتورع اللص الصهيوني عن أن يحجز دوره على مائدة الدول، فكان يتعمد نتنياهو أن يعلن في أكثر من مناسبة أن "إسرائيل" طرف من أطراف الصراع على سوريا. ورغم سياسة العدو التاريخية في سلوكه "الغموض الأمني"، وجدناه هذه المرة يسفر عن وجهه بكل وضوح، ويكشف علنا في أكثر من مناسبة عن علاقات كيانه السياسية والعسكرية والميدانية ببعض أطراف المعارضة السورية.
كما أماطت محطات التلفزة الصهيونية اللثام عن تقارير عديدة عن أنواع من التعاون اللوجستي والإغاثي والطبي وربما الأمني والعملياتي مع بعض فصائل المعارضة في الجنوب السوري. كما كانت عمليات الكيان الصهيوني الحربية غامضة المصدر في البداية، وغدت الآن علنية ومكشوفة يتبناها نتنياهو وأذرعه الأمنية والعسكرية؛ ليس في سوريا فحسب، بل وفي العراق أيضا. ومنذ عام 2014 بدأ نتنياهو يجاهر بأن مطلبه كطرف في المسألة السورية أن يتم الاعتراف له قانونيا بابتلاع الجولان (وبالتحرر من الأفكار الصهيونية السابقة حول المداورة العقارية بين دول المنطقة).
مع فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية في 2016، جاءت الفرصة كأقوى ما تكون من أجل استلال جميع "العطايا" التي يحلم بها اللصوص الصهاينة، أقله من الإدارة الأمريكية الأشد صهيونية. وبالفعل قامت هذه الإدارة بالاعتراف القانوني بالضمّ الصهيوني للجولان، وعندما مرت هذه الأعطية بالقليل القليل من ردّات الفعل، بما في ذلك رد الفعل الرسمي السوري الباهت، ومن خلفه المحور الإيراني الذي يواجه تحديات أخرى تجعله لا يلتفت كثيرا للجولان، فإن شهية اللصوص انفتحت عن آخرها لتفوز هذه المرة باعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني مع نقل سفارتها إليها. وظهر الأمر وكأنه حاله من وفاء ترامب بأحد وعوده الانتخابية، واستمر هذا المسار بالإعلان الرسمي والاحتفالي عن "صفقة القرن" وما تضمنته من لصوصية غير مسبوقة في مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار. وأخذ التمهيد والتبشير لخطوة الابتلاع القادمة المسماة "خطة الضم" التي ارتطمت ولا تزال ترتطم بالرفض الفلسطيني؛ على ما تعانيه الحالة الفلسطينية، لتظل تحتفظ بدور ممكن في المستقبل.
ولكن استخدم اللصوص الصهاينة وممالئوهم الأمريكان صنائعهم وأدواتهم العربية من أجل الضغط على الفلسطينيين. حدث ذلك في قمة عمان العربية قبل عامين، وقيل حينها إن هناك محاولة لفرض "مشروع عربي" يتم بمقتضاه تشريع العلاقات مع العدو مقابل حصول الفلسطينيين على فتات الفتات المتبقي بعد قيام العدو بضم ما يريده مما تبقى من الأرض الفلسطينية.
وقيل أيضا إنه تم استدعاء أبي مازن إلى السعودية وتم إخباره هناك بصفقة القرن وعناصرها، وقام السعوديون بحثه لقبول المعروض، بما في ذلك أن تكون "أبو ديس" هي عاصمة الأشلاء التي تتكون منها الدولة الفلسطينية، لكنه رفض العرض وظهرت "النرفزة" حينها على تعبيراته، وتفوّه بالفاظ صعبة بحق ترامب، مع أنه حاول إخفاء التواطؤ العربي.
أما عن التواطؤ العربي الذي طالما تغزّل نتنياهو به في محافل أمميه ومحلية، وكان أعلن أثناء وبعد حرب 2014 ضد قطاع غزة، فكان من أهم الإنجازات التي تباهى بها، وهو ما أسفرت عنه من تعميق العلاقة مع ما أسماه "الدول العربية المركزية" التي كانت شجعته على البطش بالمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ثم طلبت منه حرمان حماس من أي صورة نصر.
وقد أخبرنا الصحفي الشهير ديفيد هيرست، في مقال تحقيقي نشره أيام حرب 2014 في جريدة "الغارديان" البريطانية، بأن دولتي السعودية والإمارات تكفلتا للصوص الصهاينة بتسديد جميع تكاليف تلك الحرب!! وسيخبرنا نتنياهو أيضا في أحد خطاباته في الجمعية العامة للأمم أن واحدة من فضائل الصراع على الملف النووي الإيراني، وتدعو الى الانفعال الشديد، هو ما أسفرت عنه علاقات كيانه اللصوصي بالدول العربية المركزية.
وفي رأينا أن اللص الصهيوني بلغ درجات متقدمة في اختراقه بلاطات دول الخليج، وتؤشر على ذلك عشرات الشواهد التي تكاثرت في السنين الأخيرة، ولكن طريقة إخراج "اتفاق أبراهام" تحمل دلالات على حجم ذلك الاختراق وعمقه ودرجات النخر التي بلغها، وذلك ضمن الملاحظات التالية:
أولا: أن طريقة الإعلان المفاجئة ثم قيام ترامب ومن بعده نتنياهو بالظهور العلني للإعلان والكشف عن الاتفاق الذي تم بليل، في مقابل الغياب الكامل والمدوي لمحمد بن زايد أو أي شخصية من الأسرة الحاكمة - حتى يومنا هذا - هو أمر يثير الدهشة، وغير مسبوق في العلاقات الدولية، ويكشف لنا مدى حجم التبعية والاختراق وفقدان الإرادة والخضوع التام للإملاءات.
ثانيا: في الحقيقة، ظهر هذا الأداء التابع للإمارات في سلسلة مواقف وحوادث وسياسات كانت تعكس في الجوهر رغبة اللص الصهيوني، في تحقيق أغراضه عن طريق الأداة الإماراتية "الجاهزة"؛ والمقام لا يتسع هنا لاستعراضها، ولكن طريقة الإعلان قالت لنا ما يلي: إذا كان الموقف الرسمي الفلسطيني لا يزال يملك درجة من الرفض وعدم الامتثال الكامل، فهذا كان سببا في تأجيل إعلان نتنياهو لحطة الضم في الأول من تموز/ يوليو، كما كان يعد جمهوره. فلا باس، إذ بالإمكان هنا تحريك أوراق أخرى جاهزة وفي متناول اليد في المنطقة، حتى يكتمل نضوج الرضوخ الفلسطيني.
وطيلة الفترة من الأول من تموز/ يوليو الماضي وحتى الإعلان عن (اتفاق ابراهام) يوم 13 آب/ أغسطس، كان البحث عن ورقة سهلة وسريعة تظهر كتعويض "مستحق" لخطة الضم، وتمثل تحولا دراماتيكيا يساعد كلا من ترامب ونتنياهو انتخابيا وجماهيريا، فكانت الورقة الإماراتية جاهزة وسريعة إلى هذا الحد الذي ظهرت فيه، وكأنها استجابة فورية لحل ضائقة اللصوص الصهاينة، وهو ما يظهر تابعيتها وذيليتها ويعكس حجم الاختراق، وفقدانها لأي منطق ولأي تبرير من الزاوية العربية والفلسطينية. فلم تستشر الامارات أي زعيم عربي أو فلسطيني، ربما باستثناء الجاسوس الإسرائيلي محمد دحلان الذي يُعتقد أن له اليد الطولى في إنضاج وتهيئة هكذا تطورات.
ثالثا: من الملفت للنظر ما تفوهت به "تسيبي ليفني" بعد سماعها النبأ، وهي واحده من أشهر عملاء الموساد التي جاءت إلى حقل السياسة من هذه الدائرة الاستخبارية، إذ قالت: أنا مسرورة، وسعيدة جدا، لأن ما كنا نمارسه لسنوات بالسرّ غدا علنيا.
أما يوسي بيلين (أحد أهم مهندسي اتفاق أوسلو السري)، فقد صرح لتلفزيون "كان- القناة 11" قائلا: "لقد قمت عن الكرسي عندما سمعت الخبر"، بهجة واحتفاءً بالحدث.
هكذا إذن جاء اليوم الذي يعلن فيه العملاء بجرأة ووقاحة و"عين بيضاء" عن عمالتهم الخبيئة من سنين طويلة!! وإلى هذا الحد، فإن ما حدث مفيد جدا ولعله ميزة من ميزات الربيع العربي؛ أعني قدرته على الكشف والتظهير وإماطة اللثام عن الكذب والتكاذب وتسمية الأسماء بمسمياتها، وإبطال مفعول التمثيل والمراوغة.
فالسفور هنا أرحم بكثير من ذلك الكذب المتدثر بفلسطين، كما أن فلسطين تفاجئنا بدورها الكاشف والمعرّي لكل الألاعيب والخيانات، كما تعيد تأكيد دورها وشخصيتها المعنوية "المقدسة والمباركة" في أنها تسعى لتطهير السياسة من الانحدار الأخلاقي، وتعيد تذكيرنا بأن أقوى عنصر في القضية الفلسطينية كان ولا يزال العنصر الأخلاقي. وفي اعتقادنا أن بركة التغيير الأخلاقي الذي سيتبع تحرير فلسطين، عندما سيأتي وقت تحريرها، سينعكس على العالم، لأنها الأرض التي بارك الله فيها للعالمين.
كما نذكّر اللصوص الصهاينة الجشعين والذين سال لعابهم على ثروة الخليج، بأنه مهما بلغت المكاسب الذاتية والمتراكمة والمتضخمة إلى درجة التخمة، فإن حكمة التاريخ تخبرنا بأن هذه اللحظة بالذات هي نذير زوال صاحبها وهلكته!!