كتاب عربي 21

طالبان تقصي أسطورة الإرهاب وعدم التفاوض مع الإرهابيين

1300x600
منذ هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 تحولت مقولة عدم التفاوض مع الإرهابيين إلى أسطورة شائعة، لا يجرؤ أحد على مناقشتها فضلا عن التشكيك بجديتها ومصداقيتها، بحيث يُتهم أي شخص أو جهة تطالب بالتفاوض مع من يوصم بالإرهابي؛ بتبرير الإرهاب أو دعمه ومساندته.

وعندما أبرمت الحكومة الأمريكية اتفاقا مع حركة طالبان المصنفة منظمة إرهابية في 29 شباط/ فبراير 2020، تهاوت أسطورة عدم التفاوض مع الإرهابيين، دون أن تخضع الأسطورة للجدل والإدانة، بل على النقيض من ذلك، وُصفت الصفقة بالاتفاق التاريخي لإحلال السلام.

وبعد يوم من الذكرى الـ19 لهجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر التي تذرعت بها الولايات المتحدة بغزوها أفغانستان وإطاحة نظام طالبان، دخلت الحكومة الأفغانية في العاصمة القطرية الدوحة؛ محادثات سلام برعاية أمريكية مع حركة طالبان التي طالما تمسكت الحكومة بتصنيفها منظمة إرهابية، وشددت على عدم التفاوض مع الإرهابيين.

ولم يقتصر الأمر على الحكومتين الأمريكية والأفغانية، فكافة دول العالم لم تعد تصف حركة طالبان بالإرهابية، بل أصبحت القوى الدولية والإقليمية الفاعلة فضلا عن القوى المحلية تتسابق على خطب ود الحركة وتحرص على نسج علاقات ودية معها.

إن الاتفاق الذي أبرمته واشنطن مع طالبان لا بعني الفشل في أفغانستان فقط، بل يدل على فشل "الحرب على الإرهاب" التي تم شنها غداة أحداث 11 سبتمبر، والتي شاركت فيها دول من مختلف أرجاء العالم أوروبية وعربية وإسلامية، وحسب ألان غريش هذا الاتفاق يؤكد حماقة العبارة التي تكررت على مسامع الجميع حتى الغثيان "لا تفاوض مع الإرهابيين"، فالأرجح هو أن الانسحاب الأمريكي يعني تسليم البلاد لطالبان -وهو ما اعترف به مؤخرا الرئيس دونالد ترامب-، أي أننا سنعود إلى الوضع الذي كنا عليه قبل شن الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحرب فلا أحد يصدق أن حكم كابول سيدوم، وقالت كريستين فير الخبيرة في شؤون جنوب آسيا من جامعة جورجتاون "لنكن واضحين: هذا ليس تفاوضا بشأن السلام. هذا يتعلق بخروج الولايات المتحدة" من البلاد.

لم تتخل حركة طالبان عن خياراتها الأيديولوجية، وهي تؤكد على التمسك بنهجها التاريخي بعدم الإيمان بالدستور الأفغاني والعملية الديمقراطية واعتبارهما من أنظمة الكفر والردة، وتشدد على عدم المساومة على عودة الإمارة وتطبيق الشريعة.

ففي كلمته الافتتاحية في مؤتمر الدوحة، دعا عبد الغني برادر، رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان، إلى أن تكون أفغانستان بلدا مستقلا بنظام إسلامي في حال التوصل لاتفاق سلام مع الحكومة الأفعانية خلال هذه المفاوضات. وقال برادر: "أريد من الجميع أن يعتمدوا الإسلام في مفاوضاتهم واتفاقاتهم، وألا يضحّوا بالإسلام من أجل مصالح شخصية". وأضاف: "نريد أن تكون أفغانستان بلدا مستقلا ومزدهرا وإسلاميا"، وأن "تتضمن نظاما إسلاميا يعيش في ظله الجميع بدون تفرقة".

إن حركة طالبان تستند إلى ذات المنظورات الأمريكية المعممة عالميا التي تعتمد على مبدأ السلام بالقوة، فقبل أن يجف مداد الاتفاق السياسي الذي وقع في "الدوحة" بين الحكومة الأمريكية وإمارة أفغانستان الإسلامية (حركة طالبان) لإحلال السلام في أفغانستان، نفذت الحركة 33 هجوما في اليوم التالي وفقا لوزارة الداخلية الأفغانية، وهو ما حدث بعد انعقاد مؤتمر الدوحة بين حركة طالبان والجكومة الأفغانية. وقد ازداد العنف خلال السنوات الأخيرة رغم التواجد الأمريكي، فقد أحصت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة أفغانستان 4000 هجوم منذ شهر آذار/ مارس الماضي، وارتفع عددها خلال الشهرين الأخيرين بنسبة 70 في المئة مقارنة بسنة 2019.

أسطورة عدم التفاوض مع الإرهابيين انتهت، ومبدأ السلام بالقوة هو الحكم. فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدا سعيدا بالتحدث مع الإرهابيين المفترضين، فقد أجرى مكالمة هاتفية غير مسبوقة وصفها بالودية مع رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان الملا عبد الغني برادر، وقال ترامب، لدى مغادرته البيت الأبيض، إنه "أجرى حديثا جيدا للغاية مع زعيم طالبان"، مع أنه لم يتحدث مع زعيم طالبان هبة الله أخوند كما زعم.

وقد طرح ترامب احتمال أن تستعيد حركة طالبان الحكم في أفغانستان بعد انسحاب قواته، وقال في تصريح من البيت الأبيض، إنه ليس من المفترض أن تحكم طالبان أفغانستان، لكنه أمر محتمل، معتبرا أن على الحكومة الأفغانية في نهاية المطاف ضمان أمنها بنفسها. وقال: "مكثنا في أفغانستان طوال 20 سنة، وكنا نحاول حماية هذا البلد، وأعتقد أن الأفغان يجب أن يحموا بلدهم الآن. انتهى ذلك الزمن الذي كنا نقوم خلاله بهذا الدور". وأضاف ترامب أن بلاده قد تقدم يد العون لدولة معينة لمدة محددة، ولكن عليها العودة للاهتمام بشؤونها الداخلية، ويجب على الآخرين أن يفهموا هذا الأمر بوضوح.

لا يكف ترامب عن الكذب، شأنه شأن أسلافه، حول الأهداف الأمريكية الحقيقية في أفعانستان. فحماية البلد وإحلال السلام والديمقراطية، لا تعدو عن كونها رطانات بلاغية دفنتها طالبان في "مقبرة الإمبراطوريات"، وتعبر عن فشل واضح للحكومة الأمريكية التي تقود تحالفا يتألف أساسا من جنود حلف شمال الأطلسي (الناتو) والجيش الوطني الأفغاني.

فحسب صحيفة "واشنطن بوست" التي نشرت "وثائق أفغانستان"، في كانون الأول/ ديسمبر 2019، والتي كشفت "أركان الحماقة" لحرب غير واضحة القضية، فشلت الولايات المتحدة مجددا في فرض "السلام الأمريكي"، إذ تواصلت هذه "الحرب التي كان يتوجّب كسبها" من طرف الحكومات المتعاقبة منذ جورج بوش الابن ضد تنظيم "القاعدة"، صمن أفق "بناء الدولة" و"بناء الأمة"، في إطار عملية "دمقرطة" قسرية لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يضطلع به المحافظون الجدد الأمريكيون، والذي استكمل بغزو العراق للإطاحة بحكم نظام البعث والإتيان بحكومة ليبرالية موالية للولايات المتحدة.

لم تكن المفاوضات الأمريكة مع طالبان من موضع قوة ونجاح، بل جاءت نتيجة فشل الاستراتيجيات العسكرية الأمريكية في أفعانستان في كسر شوكة حركة طالبان، ومحاولة دفعها للقبول بتسوية هزيلة مع ذروة وجود القوات الأمريكية وحلفائها. فقد بلغ عدد القوات الأمريكية ذروته عام 2011، حيث وصل إلى مئة ألف جندي أمريكي، دون تحقيق تقدم يذكر.

وقد دفع بروز حركة أشد عنفا من طالبان ممثلة بتنظيم الدولة (ولاية خراسان)؛ الولايات المتحدة إلى الإسراع في التفاوض مع طالبان حول الانسحاب، والنظر إليها كحركة وطنية وليس كمنظمة إرهابية.

تشير حسابات الكلفة/ المنفغة للحرب الأمريكية في أفعانستان إلى الفشل الذريع، الذي دفع الحكومة الأمريكية للتفاوض مع طالبان. فقد بلغت نفقات وزارة الدفاع الأمريكية المنظورة لوحدها في أفغانستان 840 مليار دولار، حسب "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية". وحسب الأرقام التي نشرتها وزارة الدفاع الأمريكية، يبلغ مجموع ما أنفقه الأمريكيون عسكريا في أفغانستان من تشرين الأول/ أكتوبر 2001 إلى آذار/ مارس 2019 نحو 760 مليار دولار.

ولكن دراسة مستقلة أجراها مشروع تكلفة الحرب في جامعة براون الأمريكية؛ خلصت إلى أن الأرقام الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية لا تعكس الواقع إلى حد كبير. وخلصت الدراسة إلى أن الأرقام الرسمية لا تشمل تكاليف الانفاق على العناية بالجرحى من العسكريين الأمريكيين، ولا الأموال التي أنفقتها وزارات الدولة الأمريكية الأخرى والمتعلقة بالحرب في أفغانستان ولا الفوائد التي تكبدتها الحكومة بسبب القروض التي أخذتها لسد نفقات الحرب، وقدرت دراسة جامعة براون كلفة الحرب في أفغانستان بأنها أقرب إلى تريليون دولار.

كما تسببت الحرب في أفغانستان بخسائر بشرية كبيرة، كان نصيب قوات الولايات المتحدة الأكبر، مع سقوط 3200 قتيل ونحو 20,500 جريح منذ 2001، وهو رقم يتجاوز مرتين حجم خسائر دول التحالف هناك. وكان الرئيس الأفغاني قد قال في وقت سابق من العام الحالي إن أكثر من 45 ألف من العسكريين الأفغان قتلوا منذ توليه منصبه في عام 2014.

 إن الاتفاق بين الحكومة الأمريكية وحركة طالبان الأفغانية، الذي جاء بعد تسع جولات من المحادثات، لا يعبأ بمصير الحكومة الأفعانية، رغم رعاية واشنطن للاتفاق بين طالبان والحكومة. فقد ركزت الاتفاقية على إنشاء جدول زمني لخروج كل القوات الأجنبية المتواجدة حاليا في أفغانستان؛ وإلزام حركة طالبان بمنع شن أعمال عدائية ضد الولايات المتحدة من الأراضي الأفغانية.

ولا تشترط الصفقة على حركة طالبان التخلي رسميا عن تنظيم القاعدة، وستقوم الولايات المتحدة الأمريكية باستكمال سحب باقي قواتها وقوات حلفائها، بما في ذلك جميع الموظفين المدنيين غير الدبلوماسيين، والأمن الخاص، والمقاولون وموظفو الخدمات المساندة، خلال 14 شهرا.

ومبدئيا، ستقوم بخفض قواتها في أفغانستان إلى 8600 عنصر، خلال 135 يوما من الاتفاق مع طالبان، كما ستسحب الولايات المتحدة وحلفاؤها جميع قواتهم من خمس قواعد عسكرية، فيما ستكمل الولايات المتحدة وحلفاؤها انسحاب ما تبقى من قوات من أفغانستان في غضون تسعة أشهر ونصف. ولا يبدو أن الولايات المتحدة مهتمة فعلا بمصير الحكومة الأفغانية.

خلاصة القول أن الاتفاق بين الحكومة الأمريكية وحركة طالبان أقصى أسطورة عدم التفاوض مع الإرهابيين، ودحض خرافة "الحرب على الإرهاب". ويجب أن يدفع هذا الاتفاق إلى إعادة النظر في مصطلح الإرهاب وماهيته وتعريفه، والذي تحول إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي في سياق لعبة السلطة- القوة- المعرفة، تستخدمه القوى الإمبريالية الكبرى لتبرير حروبها وغزواتها ومغامراتها، بوصم أعدائها بالإرهابيين لتجريدهم من حق المقاومة والتحرر، واستثمرته الأنظمة الدكتاتورية البائسة في العالم العربي للتخلص من المعارضة السياسية بوصفها بالإرهابية، لمجرد امتلاك هذه الأنظمة سلطة سيادية مفروضة بالقوة وتفتقر إلى الحد الأدنى من التمثيل.

فهل نشهد عربيا إعادة النظر بخرافة حرب الإرهاب، وأسطورة عدم التفاوض مع الإرهابيين، ونلج إلى نقاش حقيقي دون لوثات استشراقية بالية؛ حول السيادة والتمثيل والديمقراطية والحرية والعدالة والاستقلال؟

twitter.com/hasanabuhanya