رغم التغيير الذي قد يحدثه
انتخاب جو بايدن، مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة الأمريكية، على الأوضاع الداخلية
للولايات المتحدة، إلا أن ذلك ليس الحال بالنسبة للفلسطينيين. ففي حين يتضح عمق
الفجوة ما بين أجندة الحزبين الديمقراطي والجمهوري فيما يتعلق بالسياسات الداخلية،
تتقارب أجندة الحزبين فيما يتعلق بموقفهما تجاه إسرائيل بما ينعكس على القضية
الفلسطينية.
فلن يعيد بايدن في حال
انتخابه رئيسا السفارة الأمريكية من القدس إلى تل أبيب، كما أنه لن يجبر إسرائيل
على التراجع عن ضم أكثر من ثلث الضفة الغربية، في حال أقدمت إسرائيل على تنفيذ
الشق الخاص بالضم الذي حددته خطة الرئيس دونالد ترامب والتي أطلق عليها «صفقة
العصر»، إلا أنه لن يعترف به أيضا. وهناك شكوك بإمكانية إقدام إسرائيل على ضم تلك
الأراضي، قبل موعد الانتخابات الأمريكية والمقررة في شهر تشرين الثاني القادم.
فتنفيذ الضم في ذلك الوقت من شأنه أن يزيد من فرص انتخاب ترامب في اللحظات
الأخيرة، وتحييد تحرك بايدن المعارض للقرار الإسرائيلي بالضم، في حال انتخابه
رئيسا للولايات المتحدة، بالإضافة إلى تحسين فرص نتنياهو الانتخابية.
وقد تكون قضية الوحدة بين مكونات المجتمع الأمريكي
المتصارعة هي القضية الأولى التي يركز عليها بايدن في دعايته الانتخابية. وقد جاء
ذلك كنتيجة لما شهدته حقبة ترامب من تصاعد لحالة من الانقسام أشعلت الشارع الأمريكي
أكثر من مرة، وأوصلت البلاد إلى حالة احتقان غير مسبوقة.
فاستعان بايدن في حملته
الانتخابية بشعار «استعادة روح أمريكا»، والتي استمدها من حادثة مدينة شارلوت في
العام ٢٠١٧، عندما قتل أحد المتظاهرين المعارضين للعنصرية على يد أحد العنصريين
البيض، ما فتح الأبواب على مصراعيها لسلسلة حوادث القتل العنصري في الولايات
المتحدة على يد أفراد من الشرطة أو المتعصبين البيض، والذين لم ينجح ترامب في
إخفاء تعاطفه معهم. ولا تعتبر قضية الانحياز إلى القومية البيضاء من قبل الحزب
الجمهوري أو دعم مكانة المواطنة للملوّنين الأمريكيين بالقضية الجديدة، بل شكل ذلك
التمايز أساسا للتمييز بين الحزبين في العقود الأخيرة. إلا أن حالة الاستقطاب
الشديدة التي شهدتها الولايات المتحدة في عهد ترامب وتكرار الجرائم العنصرية، جعل
منها قضية مركزية في الدعاية الانتخابية الحالية.
وقد عيّن بايدن كنائب له السناتور كامالا
هاريس، وهي المرة الأولى التي تترشح فيها امرأة ملونة لهذا المنصب. كما حرص الحزب
الديمقراطي على اختيار ممثلين عنه خلال فترة دعايته الانتخابية بما يعكس حالة
التنوع السكاني التي يتصف بها المجتمع الأمريكي. في حين ركزت الدعاية الانتخابية
للرئيس ترامب وحزبه الجمهوري على تقديس القومية البيضاء. فمثل الحزب الجمهوري في
دعايته الانتخابية عموما رجال بيض وكبار في السن. كما عمل ترامب على تسييس الحكم
في سابقة جديدة، بعد مشاركة اثنين من وزرائه في إلقاء خطابات خلال المؤتمر الوطني
للحزب الجمهوري، بما يخالف القانون الذي يمنع الموظفين الحكوميين من لعب أدوار
سياسية حزبية. وركز بايدن في دعايته الانتخابية على أن ترامب فشل في حماية الشعب
الأمريكي من فيروس كورونا، تماما كما فشل في حمايته من الانقسام المجتمعي. وتعهد
بالعمل على إقرار تفويض وطني للتعامل مع الوباء وفرض إلزام عام بارتداء الكمامة.
وشكلت مسألة ارتداء الكمامة، حالة من الانقسام المجتمعي أيضا ما بين أنصار الحزب
الجمهوري بقيادة ترامب وأركان إدارته، الذين رفضوا ارتداءها، معتبرين أن الرفض
يعكس حريتهم في اتخاذ قرارهم بما ينسجم مع النزعة الفردية التي تمجدها المبادئ الأمريكية.
أما فيما يتعلق بفلسطين والشرق الأوسط، فشدد
بايدن في حملته على ضرورة الالتزام بحماية أمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها،
وضرورة ضمان تفوقها العسكري النوعي مقارنة بدول المنطقة. ورغم تأكيد التزامه بحل
الدولتين، ومعارضته أيضا لأي خطوات أحادية الجانب بما فيها خطوة الضم، فقد أسقط
بايدن أي إشارة إلى إسرائيل كدولة احتلال. ورغم تأكيد نيته بإعادة فتح القنصلية الأمريكية
في القدس الشرقية المحتلة عند توليه الحكم، وإعادة السماح لبعثة منظمة التحرير
بالعمل في واشنطن، إلا أنه لم يعلن عن نيته إعادة السفارة الأمريكية إلى تل أبيب،
كما أنه لم يتطرق إلى تعديل الوضع القانوني لبعثة منظمة التحرير في واشنطن،
والقائم على أساس اعتبارها منظمة إرهابية، يسمح لها بالعمل بشكل استثنائي بناء على
تفويض رئاسي يجدد كل ستة شهور.
ولا يعارض الديمقراطيون حصار غزة، ويتعاملون
معه كقضية إنسانية، دون توجيه أصابع الاتهام لإسرائيل. ولا تخرج مقاربة الحزب
الديمقراطي تجاه غزة عن مقاربته العامة للمنطقة، فالديمقراطيون يميلون إلى
المبادرات السطحية التي تقوم على أساس شكلي دون محاسبة أو حتى معاتبة للمتسبب في
تلك السياسات، خصوصا إذا كانت وراءها إسرائيل، بما يعكس دبلوماسية القبول والدعم
لتلك السياسات لكن دون تحمل تبعات ذلك القبول. كما دعا بايدن إلى ضرورة إيجاد حل
سياسي في سورية ودعم التوجهات الدبلوماسية لحماية الاحتياجات الإنسانية فيها، لكن
دون التطرق إلى العقوبات الأمريكية عليها، تماما كدعوته إلى مساعدة اللبنانيين
لتطوير مستقبل سياسي واقتصادي مشترطا أن يكون ذلك دون وجود فساد.
ورغم أن بايدن يدعم المساعي الدبلوماسية
للتعامل مع الملف النووي الإيراني ويؤيد الحوار مع إيران، وأكد نيته العمل
لاستعادة الخطة المشتركة للعمل معها بإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي أبرم في عهد
الرئيس باراك أوباما، كما يعارض السياسة الأمريكية القائمة على أساس تغيير النظام
فيها، إلا أنه يرفض تطوير إيران لنظامها الصاروخي الباليستي، وينتقد تدخلها في دول
المنطقة كما ينتقد سياساتها الداخلية القائمة على أساس قمع المعارضة. وفي حين أكد
بايدن على عدم نيته دعم الأنظمة الاستبدادية بما فيها الدول الحليفة للولايات
المتحدة، وعدم دعمه لاستمرار الحرب في اليمن أو الصراعات الداخلية في منطقة الشرق
الأوسط أو الحروب بالوكالة فيها، إلا أنه شدد على توجهه لدعم التحديث السياسي
والاقتصادي في السعودية، وتمكين الحلفاء الخليجيين في العراق، خصوصا في ظل توجه
الولايات المتحدة لخفض التواجد الأمريكي في العراق وسورية، مؤكدا على ضرورة
الاعتماد الأمريكي على وجود الحلفاء بالمنطقة.
ورغم عدم إشارة بايدن إلى قضية التطبيع بين
العرب وإسرائيل، إلا أن مجرد تأكيد النية الأمريكية بالانسحاب من المنطقة يدعم هذا
التوجه في إطار التصدي للخطر الإيراني المروّج له. فمن الواضح أنه ليس هناك جديد
في سياسة بايدن الخارجية تجاه الشرق الأوسط عموما والقضية الفلسطينية خصوصا،
باستثناء الانفتاح في إطار الملف الإيراني، في تطابق مع توجه أوباما. فجاء تركيزه
على استبدال سياسة ترامب غير الدبلوماسية تجاه إيران بأخرى أكثر دبلوماسية، لكن
دون أن يتخلى عن تحالفه مع دول الخليج، ودون تغيير لمعادلة التوازن القائمة حاليا
في المنطقة. ويبدو أن بايدن يركز خلال دعايته الانتخابية على معاكسة السياسة التي
انتهجها ترامب، كتصريحه حول نيته إعادة ترميم العلاقات التي أفسدها ترامب سواء كان
ذلك مع الصين أو تركيا أو حتى مع الحلفاء الأوروبيين، إلا أنه ليس لديه فعليا أي
توجه لتبديل السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
ويبدو أنه في حال انتخاب بايدن ستعود العلاقات
الأمريكية مع الفلسطينيين كسابق عهدها كما كانت في ظل الرئيس الديمقراطي الأسبق أوباما،
لكن ضمن الاعتبارات الجديدة التي جاءت بها سياسات ترامب. ففي ظل أغلبية ديمقراطية
تسيطر على مجلس النواب، وربما على مجلس الشيوخ أيضا، سيعود التركيز الأمريكي على
المفاوضات وحلّ الدولتين. فقد شكل حلّ الدولتين المقاربة السياسية التي تبناها
الحزب الديمقراطي لحل القضية الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين، وتحملت الإدارة الأمريكية
مهام تحقيقها منفردة كوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وتلقى هذه المقاربة
أيضا تأييد أكثر من ٧٠٪ من يهود الولايات المتحدة. في حين يعارض بايدن
والديمقراطيون ومعظم يهود الولايات المتحدة «صفقة العصر» التي طرحها ترامب وسياسة
الضم التي يتبناها نتنياهو، على اعتبار أنها تضر بمصلحة ومستقبل إسرائيل من وجهة
نظرهم. وفي ظل عدم نجاح مقاربة حل الدولتين في تحقق أي اختراق يذكر طوال تلك
السنوات، وفي ظل التغيرات التي فرضها ترامب على مجريات القضية الفلسطينية، خصوصا
فيما يتعلق بانطلاق قطار التطبيع العربي مع إسرائيل، والذي يخدم المعادلة الأمنية
والسياسية الأمريكية والإسرائيلية في التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة، فليس من
المتوقع حدوث أي اختراق مهم في حل الدولتين في المستقبل المنظور.
(الأيام الفلسطينية)