يفصل
المغرب عن
الانتخابات المتزامنة التشريعية والجماعية المقبلة عام واحد (2021)، إذا تمّ الالتزام بتاريخ الاستحقاق الانتخابي القادم. والحال أن سنة واحدة لا تُعدّ كافية للاستعداد لانتخابات يُفترض فيها أن تكون نوعيةً قياسا لسابقاتها، وأن تمثل قيمة مُضافة في تجارب الانتخابات التي شهدها المغرب منذ السنوات الأولى من استقلاله.
فالانتخابات القادمة ستكون رابع استحقاق في عهد العاهل المغربي محمد السادس، والثالثة منذ صدور وثيقة الدستور لعام 2011. لذلك، يُراهن عليها كثيرا أن تشكل لحظة سياسية تنافسية بامتياز، وأن تُفضي إلى إفراز نخب برلمانية وجماعية قادرة على الوفاء لجسمها الانتخابي أولا، ومؤهلة ثانيا لتدبير شؤون البلاد على الصعيدين المحلي والوطني.
ثمة تحركات من جانب الحكومة للتحضير للانتخابات المقبلة، حصل ذلك في اجتماع شهر مارس آذار (2020) والاجتماع الملتئم في مستهل حزيران/ يونيو من العام نفسه. كما أن هناك تفاعلا من قبل بعض قطاعات المجتمع بشأن هذا الاستحقاق والإشكاليات المصاحبة له، سياسيا واجتماعيا وتنظيميا، والإمكانيات المتاحة واقعيا لتجاوزها إيجابيا. فالراجح في النقاشات الجارية منذ شهور، أن ثمة هاجساً مشتركا بين كافة الأطراف، والفاعلين السياسيين والاجتماعيين والحقوقيين، يتعلق بضعف منسوب ثقة المواطنين في أداء المؤسسات، ونوعية تمثيل المنظمات والأحزاب السياسية لهم. كما أن هناك شعورا شبه جماعي بمحدودية الإنجازات التي حققتها
أحزاب الائتلاف الحكومي منذ دخول دستور 2011 حيز التطبيق، لا سيما في المجالات ذات العلاقة بالقطاعات الاجتماعية الحيوية للمواطنين (الصحة، التعليم، الصحة). ولأن قيمة الثقة بين المجتمعين السياسي والمدني ما انفكت تتراجع، والهوة بينهما توسعت في السنين الأخيرة، فإن التخوف يكاد يكون إجماعيا من عودة المغرب خلال الانتخابات المقبلة إلى مستوى العزوف الذي عرفته المشاركة في اقتراع سنة 2007، حيث لم تتجاوز عتبة 37 في المئة.
يُفهم من تصريحات المسئولين الحكوميين في المغرب، وبصفة خاصة وزارة الداخلية، أن ثمة حرصاً وإصراراً على أن تجري الانتخابات القادمة في وقتها، وبكافة مستوياتها، وأن تحكمها قيم النزاهة والشفافية والنزاهة، وأن تكون إرادة الجسم الانتخابي مستقلة، وأن يؤدي القضاء كامل وظائفه في هذا المضمار.
ويلمس المتابع، من زاوية الفاعلين السياسيين، أن ثمة إدراكاً لخطورة العزوف عن المشاركة وفقدان الثقة من قبل المواطنين، على العملية الانتخابية والتمثيلية برمتها، وأن الاستحقاق المقبل يجب أن يعمل الجميع على توفير ظروف نجاحه، وتجنيب البلاد ما حصل عام 2007. فهل يستطيع المغرب تدبير أفق 2021 باقتدار ونجاح؟ وهل تستطيع نخبه السياسية استعادة ثقة المواطنين في صدقية التزاماتها، وفعالية ونجاعة أدائها؟
لا أحد يستطيع الإجابة عن سؤال الثقة بجزم ووثوقية، لأسباب موضوعية، أهمها أن هوة فقدان الثقة عميقة، والزمن الذي يفصلنا عن انتخابات 2021 محدود وقصير. والحال أن الثقة، بوصفها قيمة معنوية ورمزية وذات حمولة ثقافية، تحتاج إلى وقت أكبر وأطول، وإلى عمل تراكمي ومستدام في الزمن.
قد يقول قائل: وما الدليل على وجود أزمة ثقة عميقة بين المواطنين ومؤسساتهم، والفاعلين الممثلين لهم؟ ومن يدري، فقد يستعيد المواطنون ثقتهم خلال الشهور القادمة، وتكون الانتخابات المقبلة حافزا على انخراطهم من جديد في الحياة السياسية، والاستحقاقات الانتخابية المنتظر تنظيمها في خريف 2021؟
الجواب هو أن ظاهرة العزوف عن المشاركة ليست حديثة في المغرب، بل قديمة قدم الانتخابات نفسها، وأن الانتخابات التي ظلت موضوع تنازع بين الدولة وكثير من الفاعلين السياسيين، على الأقل حتى 2002، راكمت ممارسات مشينة رسخت روح العزوف لدى قطاعات واسعة من مكونات الجسم الانتخابي، وحتى حين انتقل المغرب من حالة اللانزاهة في الانتخابات سنة 2002 إلى وضع النزاهة، استمرت الكثير من الممارسات مستبدة بالعديد من الفاعلين السياسيين، ولم يتخلصوا من أضرارها وسلبياتها بالنسبة لاستقامة الحياة الحزبية والسياسية.
ونستطيع الجزم بأن بعض الأحزاب تحولت مع الأسف إلى منظمات مكرسة لعدم النزاهة، تارة بشكل ضمني، وطورا بإرادة وإصرار، فساهمت في تعميق هوة فقدان الثقة في صدقيتها، كإطارات لتمثيل المواطنين، وأجهزة للوساطة بين هؤلاء والدولة ومؤسساتها.
نحتاج لاستعادة الثقة في المغرب، بين الدولة ومؤسساتها والمجتمع من جهة، وبين هذا الأخير والأحزاب السياسية من جهة ثانية، إلى تغيير جذري وعميق في منظومة القيم والأخلاق التي حكمت تدبير الشأن السياسي، وتحكمت في السياسة عموما، باعتبارها فعلا بشريا عاقلاً. والحال أن تغيير القيم والمدركات، وكل ما له صلة بالبناء الرمزي والثقافي للإنسان، إلى مصفوفة من المتطلبات والشروط، أبرزها تبلور إرادة واعية بأهمية التغيير نحو الأفضل ومنافعه، ثم وجود استراتيجية واضحة من حيث الرؤية والأهداف ووسائل الإنجاز لدى كل الأطراف، علاوة على المساهمة الجماعية في تكوين ومراكمة ثقافة سياسية، مؤسسة على القيم المشار إليها، ومفعمة بروح الاستعداد والتضحية من أجل المشاركة المواطنة.. وغير هذا سيعيد المغرب تجارب العزوف، وإفراز النخب السياسية الوطنية والمحلية غير المؤهلة لتكريس ثقافة المشاركة الفاعلة والفعالة والناجعة، بل ستكرر ظاهرة الرداءة في التمثيلية، وضعف الأداء، وهدر الوقت والإمكانيات.