كثير من غير المسلمين اهتدوا إلى الإسلام، وفي ذلك برهان على حيوية هذا الدين وجاذبيته الروحية رغم ضعف المسلمين.
لكن قصة جيفري لانج تمثل نموذجاً فريداً، لأن تحوله من الإلحاد إلى الإسلام كان من خلال رحلة بحث ذاتية بعيدة عن مؤثرات الاحتكاك الثقافي بالمسلمين. إن الأمر يمكن تشبيهه بأن وحي
القرآن كان يتنزل مباشرةً على قلب رجل في ثقافة مختلفة وزمان مختلف ومكان مختلف عن مهبط الوحي الأول، وهو ما يدلل على الطاقات الكامنة في القرآن وتعاليه على الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والتاريخية، حتى إن رجلاً لا يعلم شيئاً عن ظروف تنزله وعن ثقافة معتنقيه استطاع أن يكتشف قدراً كبيراً من الثراء الروحي والفلسفي والأخلاقي في ثنايا ذلك الكتاب، من خلال الاتصال المباشر به دون وسائط ومفسرين.
جيفري لانج هو بروفيسور رياضيات أمريكي، نشأ في أسرة مسيحية، ولما بلغ ستة عشر عاماً تحوّل إلى الإلحاد بعد أن اتسعت الفجوة بين الأسئلة الوجودية التي تؤرقه والعقيدة الدينية التي نشأ عليها. كانت أسئلته مستوحاةً من تجربته العائلية الخاصة، إذ عاش طفولةً مليئةً بالرعب وفق وصفه، فقد كان والده قاسياً وعنيفاً تجاه والدته الطيبة الودودة التي تمثل له الحب والمأوى. وهو ما دفعه للتساؤل عن وجود الإله، ولماذا يخلق الله الكون على هذه الشاكلة المليئة بالعنف والمعاناة؟ لماذا لم يجعلنا ملائكةً ويضعنا في الجنة طالما أن الأمر في مقدوره؟
ظل جيفري لانج في إلحاده حتى الثامنة والعشرين من عمره، إذ أهدته عائلة سعودية "غير ملتزمة" نسخةً من ترجمة القرآن، وقبِل الهدية مجاملةً، وفي إحدى الليالي بينما كان وحيداً في شقته لم يجد شيئاً يقرؤه فأمسك بترجمة القرآن فضولاً وفتح الصفحة الأولى.
في كتابه "الصراع من أجل
الإيمان" يصف جيفري لانج تجربته مع القرآن فيقول:
"لا تستطيع أن تقرأ القرآن إلا إذا كنت جاداً في قراءته. القرآن يهاجمك بشكل مباشر وشخصي، ويناقشك، وينتقدك، ويتحداك.
كنت مع القرآن في الجانب الآخر، في الجانب الضعيف، فالمؤلف يعرفني أكثر من نفسي. الفنان قد يرسم عيناً تتابعك أينما ذهبت، ولكن كيف يتسنى لمؤلف كتاب أن يتابع أفكارك، ويتوقعها في تقلباتك اليومية؟؟ القرآن دائماً يسبق ما أفكر فيه، يزيل حواجز وضعتها أمامه منذ سنين طويلة، ويجيبني على أسئلتي.
كنت كل ليلة أضع أسئلةً واعتراضات، وفي اليوم التالي أجد فيه الإجابة عليها.
الظاهر أن المؤلف كان يقرأ أفكاري، ويضع الإجابة عنها في السطور التالية التي سأقرؤها! لقد وجدت نفسي خلال صفحات القرآن، وكنت مرتعباً لما أراه. وجدتني مدفوعاً لزاوية لا أستطيع فيها إلا خياراً واحداً!".
حين وصل إلى مشهد خلق آدم الذي يبدأ من الآية 30 من سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك".. مثلت هذه الآية صدمةً لأفكاره، لأنها تخالف النظرة الدينية التي نشأ عليها والتي ترى وجود الإنسان على الأرض عقوبةً على خطيئته بعد طرده من الجنة، لكن هذه الآية تقول إن الإنسان مكرم وإنه خليفة "نائب ووكيل" في هذه الأرض ليؤدي دوراً إيجابياً!
كانت الصدمة الإيجابية الثانية في ذات الآية في سؤال الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟"، يقول جيفري مدهوشاً: "هذا بالضبط هو سؤالي! لماذا تخلق هذا المخلوق العدواني القادر على فعل الشر في الوقت الذي تستطيع فيه أن تخلق الملائكة! كل ما فكرت فيه، كل ما خبرته في حياتي كان في قلب هذا السؤال".
يواصل جيفري لانج تأملاته في مشهد خلق آدم في سورة البقرة "وعلم آدم الأسماء كلها": "هذه الآية لا تشير فقط إلى تلقين الأسماء إنما إلى أن آدم كائن قادر على التعلم. إن أول الأمور التي يؤكد عليها القرآن هي قدرة الإنسان على المعرفة ويتميز عن الملائكة بموهبة اللغة، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة لتعلم البشر، بل وسيلة ليتلقى بها خبرات الآخرين الذين عاشوا في مئات الأماكن البعيدة عنه ومئات السنين التي تفصله عنهم. وهذا ما يعني تراكم الخبرة ومشاركة المعرفة".
"وحين يظهر الله للملائكة هذه الميزة في الخلق الجديد يقول لهم: "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، كأن الله يقول للملائكة: نعم إن البشر قادرون على فعل القبائح، لكن انظروا إلى هذه الإمكانات العقلية المذهلة التي أغفلتموها. يستطيع البشر أن يُذنبوا وأن يصنعوا البؤس، إلا أنهم أيضاً يستطيعون القيام بالعكس تماماً".
استلهم جيفري لانج من ذلك الحوار بين الله والملائكة عنواناً لكتابه الآخر الذي أسماه "حتى الملائكة تسأل". يقول معترفاً: "حتى هذه اللحظة في حياتي، كنت أفعل ما فعلته الملائكة، كنت أرى جانبا واحداً، ولأول مرة عندما قرأت هذه الآية أبصرت الحقيقة! كنت دائماً مأخوذاً بالشر الكامن في البشر، لكن الإنسان قادر على صناعة الجمال كما يصنع القبح، وقادر على ممارسة الرحمة كما يمارس العنف".
مشهد سجود الملائكة لآدم يقرأ فيه جيفري لانج أنه اعتراف من الملائكة بفضل هذا الكائن، وأنهم سيخدمون نمو وتزكية البشر، وحتى الشيطان الذي رفض السجود لآدم سيخدم هدف تزكية البشر، لأن القوة الملائكية ستدفع الإنسان باتجاه فعل الخير بينما القوة الشيطانية ستدفعه في الاتجاه المعاكس. والإنسان كائن أخلاقي عليه أن يختار، ومن خلال الخيارات الأخلاقية تنمو نفس الإنسان.
إذا، فالإنسان وفق الرؤية القرآنية كائن متعلم، وكائن أخلاقي.
من المعاني التي جذبت انتباه جيفري في هذا المشهد، المقارنة بين تناول قصة الأكل من الشجرة المحرمة في كل من الإنجيل والقرآن، إذ يقول: "إن القرآن ينحو إلى التقليل من شأن بعض الأمور، ومن الواضح أن الله ليس منزعجاً بشدة من احتمال أكل آدم من الشجرة ولا يشعر بالتهديد"، وهو يشير بذلك إلى المناخ الصراعي الذي يغلف هذه القصة في تناولها في العهد القديم.
في الآية التالية: "فأزلهما الشيطان"، للوهلة الأولى ظن جيفري أن هناك خطأً في ترجمة كلمة "فأزلهما"، وراجع صديقاً عربياً للتأكد من ترجمة الكلمة! فقد كان يتوقع الغضب والثورة الإلهية. هل الخطيئة الكبرى في تاريخ البشرية تسمى زللاً! بمعنى الانزلاق البسيط، ثم في الآية التي تليها تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.
يوجز جيفري لانج الرؤية الكلية لمقاصد القرآن وفق تأملاته فيقول إن هناك جملةً من "عمل الصالحات" التي يحث القرآن المؤمنين عليها مثل "الرحمة- التسامح- العدل- الدفاع عن المظلومين- كسب العلم والحكمة- الكرم- الصدق- السلام".
"إننا لا نستطيع أن نتصل بذات الله لأنه ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار، لكننا نستطيع الاقتراب منه بالاتصاف بصفاته. كما أن الإنسان حتى يقترب من إنسان آخر فلا بد أن يكون هناك شيء ما يتشاركانه، وحين نتصف بصفات الرحمة والكرم والعطف والعدل والصدق سنتمكن من الإحساس بصفات الله الرائعة وأسمائه الحسنى، وكلما جاهدنا لنتصف بالرحمة والرأفة والسلام والحق والعدل في هذه الحياة كلما تمكنا من الاقتراب من المصدر الأعلى للرحمة والرأفة والسلام والحق والعدل لرب العالمين".
تأملات جيفري لانج في القرآن ملهمة وعميقة ومتماسكة خالية من التكلف، تخدم المقاصد الكلية للدين، وهي جديدة لا تكاد تجدها في كتب الأولين التي فسرت القرآن. والسؤال: لماذا فاض قلب جيفري لانج بهذه المعاني التي لم يتفطن إليها من سبقه؟
الإجابة أنه جاء من سياق ثقافي مختلف فقرأ القرآن متحررا من قيود
الثقافة والموروثات، وآمناً من شبهة الخلط بين الإلهي المقدس والتجربة البشرية. لقد كان تفاعله مع الكتاب مباشرة حتى قبل أن يؤمن بأنه منزل من عند الله، فكان يحاور هذا الكتاب بقلب منفتح وهو لا يعرف من مؤلفه، ويتأمل سطوره بموضوعية وتجرد قبل أن يصدر حكمه.
الإنتاج الفكري هو وليد الأسئلة الملحة، وقد جاء هذا الرجل من خلفية أسئلة وجودية كبرى كانت تؤرق راحته وتشغل قلبه، فكان عقله خاليا من الأسئلة الصغيرة والتفاصيل الفقهية المثقلة، بينما كان ممتلئا بأسئلة كبرى مثل خلق الإنسان والشر والمعاناة وهدف الحياة فقرأ في ذات النص ما لم يقرأه من سبقه. وقد يقرأ المرء نصاً آلاف المرات دون أن يتفطن إلى المعاني القريبة التي تستبطنه لأن شرط الاستعداد النفسي والعقلي قد غاب.
هذا برهان يرينا أن التجارب الجديدة تمنحنا غنىً روحيا وفلسفيا وفكريا وتحلق بنا في آفاق رحيبة، وأن علينا ألا نضيق واسعاً، وأن قراءة القرآن بنظارات الثقافة وحدها مثله كمثل من يستبدل صنبور الماء بالنهر الجاري.
لذلك فإن علينا أن نفرح باهتداء المسلمين من الثقافات الأخرى، لكن دون أن نسعى إلى صهرهم في ثقافتنا وموروثاتنا، إذ إن انتماءهم إلى ثقافات مختلفة هو إثراء وإضافة إلى الدين. وقد شاهدت مسلمةً أوروبيةً ذات مرة وهي تضع بجوارها مجلدات كبيرةً لتراجم عن كتب الفقه القديمة، فقلت في نفسي: كان يكفي أن نهدي إليهم القرآن وبعض الشروح البسيطة دون أن نثقل عقولهم بتفاصيل غير ضرورية.
جيفري لانج ذاته أدرك مشكلة الخلط بين الدين والثقافة، وضرب مثلاً من رحلته إلى مكة حين اصطدم بعادات عربية لكنها ليست مبادئ جوهريةً في القرآن، مثل الفصل بين الرجال والنساء في الأنشطة العامة، فقال إن علينا التفريق بين المبادئ الأساسية في الدين وبين ثقافة المسلمين؛ لأننا حين نخلط بين الأمرين فإننا نمنع كثيرين من الاهتداء إلى الإسلام و نلزمهم بقيود لم يلزمهم القرآن بها.
twitter.com/aburtema