معركة طويلة احتدمت بين هاني شاكر، رئيس نقابة المهن الموسيقية في مصر ومجموعة من شباب مطربي المهرجانات الصاعدين. نستطيع أن نرصد غبار المعركة على السوشيال ميديا والمواقع الشهيرة وصولا إلى برامج التوك شو الشهيرة.
ملخص المعركة أن حسن شاكوش نال عضوية نقابة المهن الموسيقية بعد مهرجانه "بنت الجيران" الذي طبق الآفاق.
كما أشاد النقيب هاني شاكر بصوته، لكنه طلب منه أن يحذف من المهرجان لفظتي الخمور والحشيش في الكوبليه: "أتوه ومش هالاقيني. واشرب خمور وحشيش". وافق شاكوش بل أخبر النقيب شاكر أنه قد عدله بالفعل، فأصبح: "أتوه ومش هالاقيني. من غيرك مش هاعيش".
بدت الأمور طيبة للجميع حتى غنى شاكوش مهرجانه، مع شريكه في المهرجان عمر كمال، في استاد القاهرة الدولي بحضور الآلاف، لكن في صورته الأولى، ذات الخمور والحشيش. وقامت قيامة السيد النقيب ليملأ الدنيا غضبا وثورة.
فورا اعتذر شاكوش وكمال وأعلنا أن السبب في ذلك خطأ تقني، لأنهما سلما فلاشة عليها المهرجان لمسؤولي الدي جي، لأن الأغاني تكون مسجلة والمطربون يحركون شفافهم فقط كأنهم يغنونها. الخطأ وقع حين سلمت فلاشة عليها النسخة السابقة من المهرجان دون قصد منهما.
لكن هيهات. شطبت عضوية شاكوش ومنع من الغناء، وامتد المنع إلى مطربي المهرجانات جميعا. وملأ النقيب شاكر شاشات التوك شو، غاضبا، مقاتلا ضد المهرجانات، بالقدر الذي ملأ به السوشيال ميديا، لكن هذه المرة كان صيدا ثمينا لملكة السخرية لدى المصريين، الذين وجدوه هدفا مناسبا تماما.
من ناحية، مثلت المهرجانات متنفسا للشباب المعارضين لأنماط التفكير المستقر والمتوارث في مصر، سواء في السياسة أو الفن أو الأخلاق التقليدية المبنية على النفاق الاجتماعي الذي رسخته الأنظمة السياسية المصرية عبر عقود. وهي في مجملها أخلاق غريبة، تسمح بقتل آلاف المعارضين في الشوارع لكنها ترتعب من كوميكس ساخرة على فيسبوك. تلقي بالآلاف في معتقلات بشعة، ثم تعتقل طالبا جامعيا عانق خطيبته لحظة تقدمه لطلب يدها.
وكما هو متوقع، ساندت أجهزة الدولة نقيبها شاكر في حربه على المهرجانات، وكما أوصى النقيب في بيان نقابة المهن الموسيقية، مُنعت حفلات مطربي المهرجانات تماما، في مصر وخارجها أيضا. وألغيت حفلات حسن شاكوش وحمو بيكا وغيرهما ممن ظهروا متوسلين معتذرين للنقيب، ومهددين حينا آخر مثل حمو بيكا.
من الملفت أن قوات الداخلية أشرفت على منع بعض تلك الحفلات والتأكد من إلغائها. وهذا ما استفز جمهور السوشيال ميديا أكثر فأكثر، حتى إن بعض الفنانين والفنانات ساندوا مطربي المهرجانات بالرقص على مهرجان بنت الجيران ونشر مقاطع رقصهم على السوشيال ميديا.
هذا مفهوم غريب عن الأخلاق، يحمل قدرا هائلا من التناقض ويغيب عنه أي معنى للاتساق. وربما يفسر لنا ذلك تصرف الدولة ذاتها بعد شهور قليلة من حروب المهرجانات في فبراير ومارس الماضيين.
ففي أكتوبر الحالي، استعانت الدولة بمطربي المهرجانات للغناء في الميادين يوم 2 أكتوبر، تحت مظلة الاحتفال الرسمي الذي دعا إليه السيسي، وتبنى شعارات الدولة المصرية حرفيا من الاحتفال بالأمن والأمان ورفض دعوات التخريب، التي فُهم بوضوح أنها دعوات التظاهر التي أطلقها المقاول الفنان محمد علي من منفاه.
وما دامت الدولة ترسخ صورتها باعتبارها حامية الأخلاق وراعيتها الكبرى، فربما يكون غريبا أن تغفر الدولة لمطربي المهرجانات زلاتهم الأخلاقية التي لم تتسامح بشأنها سابقا، رغم الاعتذارات والانحناءات الكثيرة، التي أعلنها مطربو المهرجانات.
في هذا السياق أذكر جملة مضحكة حقا قالها النقيب شاكر، من بين جمل كثيرة مضحكة حقا، حين اختصر معركته في لفظتين اثنتين، فقال ردا على فكرة أن الخطأ تقني بسبب الفلاشة لا أكثر: "الجريمة وقعت. زي ما الأستاذ حلمي بكر حبيبي قال: القتيل اتقتل".
لم تكن النكتة في استدعاء حلمي بكر، الذي يمثل كل ما هو رجعي وسلطوي وقديم في عالم الفن، بل في ذلك التشبيه الذي يساوي بين نطق كلمات ما وقتل قتيل! وعلى هذا المنوال ظل يتحدث عن شكل مصر والجوانب الحضارية وضياع أولادنا... حتى قال نصا في أحد حواراته: "أنا خايف على شكل مصر والأجيال اللي جاية".
أيضا ثمة مفارقة في تجريم كلمة مثل "خمور" تُباع في مصر بشكل قانوني في منافذ خاصة وبارات وفنادق كثيرة، وتحت سمع الدولة وبصرها، فكيف يكون النطق بها أو بشربها جريمة تهز شكل مصر؟ وإذا كان النقيب يرى ذلك فلماذا لم يطالب بمنع الخمور مثلا، قبل المطالبة بمنع ذكرها؟
واتساقا مع هذا القدر الهائل من عدم الاتساق، سلك النقيب شاكر سلوكا غريبا إزاء قيادة مطربي المهرجانات للاحتفالات الشعبية التي رعتها الدولة، في ميدان رمسيس وأمام المنصة، ونقلتها القنوات والمواقع المصرية كلها تقريبا.
وبعد أن كانت قوات الداخلية هي التي تمنع حفلات حمو بيكا، غدا نجمها الذي تُفتح له الميادين ويرقص الشباب رقصات مهرجاناته أمام الكاميرات!
هنا لم ينطق النقيب شاكر بحرف. ألقى سلاحه وتخلى عن تاريخ طويل من المعارك!