في القديم، كان المنتصرون من يكتبون التاريخ، والمنهزمون يستهلكونه ويلعبون دور الكومبارس، الآن في عصر دمقرطة وسائل الإعلام والتواصل لا يهم موقعك في نهاية المعركة، منتصرا أو مهزوما، لكن من يقوم باكرا ويملك آلات الحشد الفعلية والمصطنعة ويحصد المعجبين يستطيع كتابة صفحة في التاريخ إن لم يكن الكتاب كله. وهنا أنت وحظك، إما أن يصحو باكرا الخيرون أو الشريرون. قصة اليوم تتعلق بتزوير العقول المكثف من قبل المحور الإماراتي- السعودي.
شهدنا في الأسابيع الأخيرة حدثين يبغيان صناعة التاريخ؛ الأول
"شهادات" بندر بن سلطان، السفير السعودي العابر للرؤساء في واشنطن، والذي كان عبر السنين وزير خارجية الظل خلف سعود الفيصل، في حلقات جديدة على قناة العربية حول علاقة
السعودية بالقيادات الفلسطينية.. الثاني
حملة مفاجئة في تويتر، خاصة من حسابات سعودية وإماراتية تدعي الكشف عن آلاف الإيميلات لهيلاري كلينتون، وبنت عليها قصصا مؤامراتية جديدة.
أعتقد أن هناك علاقة بين الأمرين، ونقطة الالتقاء هو الحشد المشترك لادعاء طهورية في وقت يمارس المحور المعتاد النجاسة.
رواية بندر على ثلاث حلقات تركزت على الفترة التي كان فيها سفيرا، وعموما قربه من الملف الفلسطيني خاصة من الزاوية الأمريكية من 1978 إلى 2015. الرواية تبدأ بالرد على الكلام "الواطي" و"الهجين" كما وصفه لقيادات السلطة الفلسطينية التي لم تتعرض للسعودية أصلا، وانتقدت قرار الإمارات والبحرين بالتطبيع دون اعتبار لتعطل مسار المفاوضات، وضم إسرائيل للقدس باعتراف أمريكي، ورفض حل الدولتين.
رد السعودي بندر على اتهامات تخص الإمارات فُهم مثلما نقول في الأمثال التونسية "المجراب تهمزو مرافقو"، بمعنى أنه فضح التورط السعودي على مستوى أهم قيادات البلاد في التحضير لـ"
الهجوم الخليجي من أجل التطبيع".
رواية بندر الممنهجة والمنتظمة والتي تدعي "الشهادة على العصر"؛ تقوم بنقل وجهة النظر الأمريكية وخاصة الإسرائيلية، والتي تحمّل الجانب الفلسطيني مسؤولية عدم الوصول إلى اتفاقيات، ومن يستمع إليها، وخاصة تصوير القيادات الفلسطينية على مر العقود بأنهم "غدارون" و"كاذبون"، تجعله يعتقد أنه بصدد شهادة لمستوطن إسرائيلي وليس لمسؤول عربي.
في ذات الوقت لدينا قرار مشترك، الأرجح مخابراتي، سعودي- إماراتي، لإطلاق حملة على تويتر مبنية كالعادة على شهادات مزورة منسوبة لهيلاري كلينتون، تصطنع تسريبا "جديدا" (وهميا) للمراسلات الإلكترونية لوزيرة الخارجية الأمريكية، وهو الأمر الذي لم يحدث، وطبعا تتم إعادة تشغيل الأسطوانة المشروخة المتمثلة في أن "الربيع العربي هو مؤامرة أمريكية صنعتها هيلاري في مخابر الخارجية الأمريكية". وهي في علاقة وطيدة بالصفحات المزورة التي سبق ترويجها عن "مذكرات هيلاري"، والتي تم الادعاء فيها بأن كلينتون قالت إنها صنعت الثورات وداعش، في حين أن كل ذلك محض خيال ولم يرد في المذكرات الحقيقية.
هذا اللحن الممجوج تم تسويقه عربيا كالعادة، وتلقفه بعض الأغبياء في تونس ومنهم مستشار عبير موسي، "خبير الاقتصاد" معز الجودي، الذي أعاد ببساطة وبكل غباء ما يردده المحور الإماراتي- السعودي، واضعا رابطا قديما لمراسلات هيلاري.
يتبين في كل الحالات أن الجودي يجهل الإنجليزية وإلا لما تجرأ على وضع رابط يفضح بالذات كذبه. إذ إن أول إشارة في المراسلات (المنشورة منذ فترة وليست جديدة) إلى أحداث الثورات تتعلق بيوم هروب ابن علي وتخوف مسؤولي الخارجية الأمريكية من "انفلات الشارع"، ومحادثاتهم مع وزير خارجية ابن علي آنذاك كمال مرجان؛ من أجل عدم السماح بالفوضى. نحن إزاء إدارة أمريكية غير قادرة على متابعة التطورات السريعة وتنظر باندهاش إلى ما يحدث. هذا ما تكشفه الإيميلات.
بالمناسبة، انتشرت في تونس على وسائل التواصل الاجتماعي تدوينات تسخر من المؤامراتية الفجة، وترد عليها بمزيد من الاختلاقات، مثلا حوار خيالي بين هيلاري ومحمد البوعزيزي، حيث تتصل به هاتفيا لحرق نفسه وترتيب الأوضاع لاختلاق ثورة. لكن ما الذي يجعلنا ننزل إلى هذا الحضيض لو لم تكن بعض العقول الساذجة والمؤدلجة جاهزة أصلا لتقبل هذه الخرافات البدائية، تريد تصديق قصص وهمية وبدون أي إسناد مصدري، في حين توجد عديد المعطيات العلنية التي تقول العكس؟
فمن المعروف أن التدخل الأجنبي الرئيسي أيام
الثورة في تونس كان إعلان الحكومة الفرنسية عبر وزيرة خارجيتها إليوت ماري يوم 12 كانون الثاني/ يناير 2011، على منبر البرلمان الفرنسي، عن استعدادها لتقديم "المساعدات" لأجهزة الأمن التونسية وهي تقوم بتقتيل المتظاهرين. إن كان هناك مؤامرة أجنبية في تلك الأيام فتتمثل في إفشال الثورة وعرقلتها، وليس اصطناع الثورة.
من بندر إلى غرفة عمليات تويتر والحشد الإلكتروني، ثم المستهلكين من درجة ثانية في بقية المجال العربي من التابعين للمحور إياه، هناك عملية دورية من أجل تزوير وغسل العقول. هي محاولة لكتابة التاريخ الراهن بوسائل الراهن، وهي لا تقل أهمية عن الحرب السياسية الفعلية القائمة من أجل حماية
الديمقراطية والحق الفلسطيني على السواء. إذ لا شك في أن هناك رابطا بين الإقبال السعودي- الإماراتي على
التطبيع بالشروط الإسرائيلية المجحفة، والتهجم المتواصل على الديمقراطية. فالدور الوظيفي السعودي- الإماراتي في الاستراتيجية الإسرائيلية يخدم هدفا أساسيا هو استعداء إرادة ومصالح الشعب العربي أينما كان، سواء المحتل إسرائيليا، أو المحتل من أنظمة تعيش رهابا من فكرة الحرية.
twitter.com/t_kahlaoui