في مطلع شهر تشرين أول (أكتوبر) الجاري حدث تهليل رسمي لاتفاق سلام بين الحكومة السودانية وفصائل مسلحة، ولا شك أن الاتفاق خطوة طيبة يرتجى منها أن تضع حدا لمعاناة مئات الآلاف من النازحين والمهجرين قسرا في دارفور في غرب السودان، ولكن القراءة المتأنية للاتفاق، تجعلنا ندرك أن ذلك التهليل فيه قدر كبير من التهويل.
وما يعاب على هذا الاتفاق هو أن بعض أطرافه لا علاقة لها بالحرب، وبالتالي لا علاقة لها بالسلام، فقد تسلل إلى المفاوضات التي قادت إلى الاتفاق في جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان أشخاص لا يمثلون إلا أنفسهم، زاعمين أنهم يمثلون وسط البلاد وشمالها، اللذان لم يشهدا حربا منذ عام 1821 عندما غزا محمد علي باشا السودان بجيش قادم من مصر فتصدت له قبيلتا الشايقية في الشمال والجعليين في الوسط، بل إنه وحتى بالنسبة لإقليم دارفور الذي ظل مسرحا لحرب بشعة بين القوات الحكومية ومليشيات الجنجويد سيئة السمعة من جهة وحركات متمردة، فإن القوى التي مثلت دارفور في تلك المفاوضات ظلت في حال خمول عسكري طوال نحو سبع سنوات.
أما الفصيلان اللذان ما زالا يحملان السلاح، ولديهما مواقع على الأرض خارج سلطة الدولة، وهما حركة تحرير السودان (دارفور) والحركة الشعبية ـ قطاع الشمال في جنوب إقليم كردفان فقد كانا خارج الصفقة، ولا يستقيم سلام حقيقي دون موافقتهما.
وأكثر ما يعيب هذا الاتفاق أنه تم بواسطة طرف تغول على المفاوضات التي قادت إليه، وهو مجلس السيادة (رئاسة الدولة)، وهو غير مخول دستوريا لاجتراح السياسات والأمور التنفيذية التي هي من صلاحيات مجلس الوزراء، فقد اختطف المجلس السيادي الأمر وأوكله إلى ثلاثة من أعضائه إثنان منهما عسكريان برتبة فريق أول، هما محمد حمدان دقلو حميدتي، وشمس الدين كباشي، وكلاهما محط سوء ظن القوى التي فجرت الثورة التي أطاحت بنظام عمر البشير.
كان ممثلو الحكومة السودانية في مفاوضات جوبا بلا خبرة سياسية أو تفاوضية، بينما خاض ممثلو حركات دارفور جولات طويلة من المفاوضات مع حكومة البشير على مدى أكثر من عقد، فصارت لديهم رؤى واضحة حول ما يريدون ودراية بالكيفية التي يتم بها التحاور والمراوغة وصولا إلى الغايات، ولهذا يرى منتقدو الاتفاق أنه عاد بمغانم طيبة على الجانب الدرافوري من حيث الأنصبة في السلطة والثروات، مما فجر براكين الغضب في أقاليم السودان الأخرى فور ذيوع تفاصيل الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بالتمييز الإيجابي لطلاب دارفور الجامعيين من حيث الإعفاء من الرسوم الدراسية لمدة عشر سنوات، ومنح أهل دارفور حصة ثابتة في المناصب العليا على مستوى المركز والولايات.
من غرائب الأمور أن الجنرالات الذين سعوا لاختطاف ثورة كانون أول (ديسمبر) التي أطاحت بحكم البشير ثم ثابوا إلى بعض الرشد بعد أن أحبط الحراك الشعبي مخططاتهم، وارتضوا تقاسم السلطة مع القوى المدنية، كانوا يصرون على أن تكون الفترة الانتقالية التي تسبق الانتخابات سنة واحدة فقط، ولكن ممثليهم في مفاوضات جوبا قبلوا بكل سرور بتمديد الفترة الانتقالية حتى نهاية عام 2023،
أما كعب أخيل الاتفاقية، فهو القول بأن بنودها تعلو على الوثيقة الدستورية التي تهتدي بها الحكومة الانتقالية الحالية في السودان، فالدستور في كل الدول والملل والنحل هو أبو القوانين ولا قانون يعلو عليه، ولا يجوز تعديل تلك الوثيقة إلا بموافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي، وهو المجلس الذي تقاعست الحكومة عن تشكيله، واستعاضت عنه بأن منحت سلطاته لمجلسي الوزراء والسيادة اللذين يتألفان من نحو 28 عضوا (بينما تبلغ عضوية المجلس التشريعي المقترح ما يربو على 350).
ومن غرائب الأمور أن الجنرالات الذين سعوا لاختطاف ثورة كانون أول (ديسمبر) التي أطاحت بحكم البشير ثم ثابوا إلى بعض الرشد بعد أن أحبط الحراك الشعبي مخططاتهم، وارتضوا تقاسم السلطة مع القوى المدنية، كانوا يصرون على أن تكون الفترة الانتقالية التي تسبق الانتخابات سنة واحدة فقط، ولكن ممثليهم في مفاوضات جوبا قبلوا بكل سرور بتمديد الفترة الانتقالية حتى نهاية عام 2023، مما يعني استمرار جلوس كبيرهم الفريق أول عبد الفتاح البرهان في كرسي رئاسة مجلس السيادة لعام وبعض عام إضافي، بعد أن كان مقررا نزوله عن ذلك الكرسي في أيار (مايو) من العام 2022.
ولكن حتى من ينتقدون هذا الاتفاق يقولون إن فيه خير كثير للوطن إذا تم إنفاذه بحيث يسمح بعودة النازحين واللاجئين إلى قراهم معززين مكرمين، ولكن ما لا يبعث على الطمأنينة بشأن عموم الأوضاع في السودان هو أن هناك مؤشرات كثيرة تشي بأن العسكر المشاركين في الحكم يسعون إلى إجهاض الفترة الانتقالية، لأنهم لم يتخلوا عن حلم الانفراد بالسلطة.
ولعل أكثر العسكريين مجاهرة بجهد الإجهاض ذاك هو الفريق حميدتي، الذي تسيد المشهد العام في السودان، فلا يكاد يمر جزء من يوم دون تصريح له في مختلف الشؤون، والقوات التي ينفرد بقيادتها هو وشقيقه عبد الرحيم تصول وتجول في ربوع السودان تمارس صلاحيات الشرطة والمخابرات والجمارك، بل إن حميدتي يتحدث عن الحكومة الحالية وكأنه استشاري مناط به أمر تقييمها وتقويمها، وليس كالرجل الثاني في التراتبية بحكم أنه النائب الأول لرئيس مجلس السيادة (مسمى وظيفة عجيب لأنه لا يوجد نائب ثان لرئيس المجلس)، ويكيل الاتهامات للحكومة بالفشل وينتقد بعض الوزراء علنا.
وما من شخص استفاد من الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم عمر البشير كما حميدتي، الذي تحول في ظل حكم البشير من تاجر إبل إلى "عميد" بعد تحويل المليشيا التي كان يقودها إلى قوة شبه نظامية، ثم قفز بالزانة إلى رتبة فريق أول بعد الثورة، وصار الرجل الثاني في الحكم ليس لأنه صاحب سهم في الثورة، ولكن لأن جنرالات الجيش منحوه ذلك المنصب اتقاء فتنة قد تقودها قواته في حال تهميشها في أمور السلطة.
ومنذ أيام وحميدتي في دائرة الضوء كبطل سلام، بوصفه من قاد الفريق الحكومي في مفاوضات جوبا، وستُبْدي لنا الأيام ما إذا كان السلام الذي أتى به ورفاقه "تمام التمام" ام أي كلام.