رمية بغير رام.. هكذا هي
الرسائل الالكترونية للوزيرة الأمريكية السابقة والمرشحة الرئاسية
هيلاري كلينتون، والتي أفرجت عنها إدارة ترامب خلال الأيام القليلة الماضية لتوظيفها في حملتها الانتخابية، وقد تضمنت تلك الدفعة بعض الرسائل الخاصة بالثورة
المصرية وعلاقة الجيش بالثورة وقواها الرئيسة، وخاصة
الإخوان المسلمين والقوى الليبرالية، وعلاقة الرئيس
مرسي بالجيش والقوى الثورية والإخوان، وحتى الأمريكان أنفسهم.
لا يهمنا هنا الجدل الدائر حول مدى الخطأ والصواب في احتفاظ هيلاري كلينتون بـ"حساب بريد خاص"، بعيدا عن الحساب الرسمي لوزارة الخارجية، ولا تلك التحقيقات التي جرت حول ذلك، ولا اكتشاف آلاف الرسائل التي لم تخبر بها هيلاري الإدارة رسميا.. إلخ، ما يهمنا هو ما يرتبط بالربيع العربي، وتحديدا بالثورة المصرية وأول رئيس مدني نتج عنها، وهو ما تكررت الأكاذيب بشأنه منسوبة إلى هيلاري كلينتون، تماما كما حدث عندما نشرت كتابها "خيارات صعبة" في 2014، ونسبت له وسائل إعلام الثورات المضادة الكثير من الأكاذيب التي لم تقلها هيلاري في كتابها، مثل أسر الجيش المصري قائد الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط، والاتفاق الأمريكي الإخواني لإعلان دولة إسلامية في سيناء ومنحها لحماس، ومنح حلايب وشلاتين للسودان، وفتح الحدود الليبية.. الخ.
على عكس ما هلل "إعلام السامسونج" في مصر، لما توهم أنه رسائل فاضحة للإخوان والرئيس مرسي - دون أن يظهر رسالة واحدة تخدم هذا الغرض - فإن الرسائل المنشورة على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية وفي العديد من وسائل الإعلام حملت إنصافا للرئيس مرسي رحمه الله، كما كشفت جوانب مهمة مما خفي في العلاقات السياسية في تلك المرحلة، وهي في المجمل لصالح الإخوان ولصالح الرئيس مرسي حتى وإن لم تقصد ذلك.
فإحدى التهم التي ما فتئت الجهات المناوئة للرئيس على ترديدها هي خضوعه لهيمنة مكتب الإرشاد؛ الذي كان بنظرها هو الحاكم الفعلي لمصر، وقد تضمنت رسائل كلينتون ما يفيد بعكس ذلك، حيث ذكرت هيلاري في إحدى رسائلها أن "المرشد العام لجماعة الإخوان الدكتور محمد بديع قرر منذ نهاية تموز/ يوليو 2012 التراجع في الخلفية، وترك مهمة قيادة الإخوان وحزبهم للرئيس مرسي باعتباره رئيس الجمهورية، مما يجعله الأقدر على ذلك، وذلك على أن يراقب ويدعم في الخلفية، مع شعور بديع بأن مرسي لن يستشيره
حفاظا على استقلاليته".
كما كشفت الرسائل أن مرسي عرض على قادة المعارضة العلمانية-الليبرالية في أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2012 استعداده تأجيل الانتخابات كلها حتى كتابة مشروع دستور أكثر إرضاء للجميع، بشرط أن يدعموا جهوده لاقتلاع رجال مبارك على كل مستويات الحكومة". وكشفت أيضا أن مرسي والكتاتني (رئيس البرلمان) تواصلا مع الحكومة الليبية المؤقتة لضمان حماية حدود مصر الغربية وعدم تسلل المتشددين، كما أمر مرسي الجيش بتعزيز نشاطه في تأمين حدود مصر الغربية".
أما عن الأجواء التي عمل فيها الإخوان خلال حكم مرسي فتكشف إحدى الرسائل المنسوبة إلى مصدر رفيع على صلة بالإخوان والمجلس العسكري بتاريخ 14 تموز/ يوليو 2012: "تستطيع إدارة يقودها الإخوان تطوير بناء إداري ديمقراطي فعال، ولكنهم يعملون وفقا لجدول زمني وضع من قبل توترات سياسية خارجة عن سيطرتهم" (الترجمة نقلا عن صفحة الباحث علاء بيومي على فيسبوك).
جاءت الرسائل المفرج عنها حديثا لتقول ما لم تقله هيلاري في مذكراتها "خيارات صعبة" المنشورة في 2014، والتي كتبتها بعناية شديدة بحيث لا تغضب أحدا، لأنها كانت تؤهل نفسها في تلك اللحظات للترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية، ومن ثم حرصت على إخفاء بعض المعلومات أو التحفظ الشديد في الحديث عن بعض المواقف والقرارات.
لقد كانت تلك المذكرات تمثل ما يوصف بـ"الإجابات النموذجية" لدبلوماسية متمرسة. لم تُرد أن تدفع ثمنا لكلامها وهي على أعتاب معركة انتخابية كانت تؤمل أن تحملها إلى البيت الأبيض كرئيسة وليس كسيدة أولى، ومع ذلك فقد حملت تلك المذكرات تفاصيل لاتصالات أمريكية مع الرئيس مرسي؛ بدا فيها مرسي كرجل دولة حصيف، يتخذ القرارات الصعبة والتي ترفع قدر وسمعة مصر دوليا كما كان الحال في حرب غزة الثانية تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، والتي لم تجد الإدارة الأمريكية خلالها سوى الرئيس مرسي لتلجأ له للتعاون معها في وقف التدهور. وكان مرسي قد أطلق ساعتها صرخته المدوية "لن نترك غزة وحدها".
وبالفعل جرت اتصالات مكثفة بين الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون مع الرئيس مرسي، قبيل وصول هيلاري للقاءات مباشرة مع مرسي في القاهرة انتهت بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي احتفل به أهل غزة كثيرا.
ومما سجلته هيلاري خلال زيارتها عن الرئيس مرسي: "كان مرسي سياسيا استثنائيا قذفه التاريخ من الغرفة الخلفية إلى كرسي الرئاسة؛ منكبا بطرائق كثيرة على تعلم سبل الحكم من النقطة صفر، فيما الأوضاع متأزمة جدا. كان واضحا عليه عشقه للسلطة التي يوفرها له منصبه الجديد (المعنى تمسكه بسلطاته الدستورية)، متقدما على وقع السياسة إلى أن استنفدته لاحقا. ارتحت إلى اهتمامه لأن يكون صانع صفقات (تقصد صفقات سياسية مثل صفقة وقف العدوان على غزة) أكثر من ميله إلى الغوغائية".
وفي موضع آخر تصف مرسي: "أتقن الإنجليزية، وهو الحائز على شهادة الدكتوراة في العلوم من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1982، وتولى التدريس في جامعة ولاية كاليفورنيا نورثريدج حتى العام 1985".
وتختتم: "لن تبدو حكومة الإخوان المسلمين صادقة مجددا كما بدت ذلك اليوم. شكرت للرئيس مرسي وساطته، مشيدة بالاتفاق، ومحذرة في الوقت عينه يأنه لا بديل عن السلام العادل والدائم". (خيارات صعبة 469-470).
لم تكن هيلاري هي الداعم الأكبر للربيع العربي داخل الإدارة الأمريكية، ولم تكن صاحبة الفضل (هي أو إدارتها) في وصول الإخوان إلى السلطة، بل كان الفضل لثورة شعبية كسرت كل قيود الماضي، وحررت إرادة الشعب. ولم تكن هي راعية الشباب في ميدان التحرير كما زعمت الأذرع الإعلامية لنظام السيسي، بل كانت الأقل حماسا، والأكثر تحفظا في تعاملها مع الثورات.
فحين هبت الثورة المصرية قالت في تصريح شهير لها في الأيام الأولى للثورة: "النظام المصري مستقر وفق تقويمنا" (ص 330). والحقيقة أن أوباما وبعض صغار مساعديه الآخرين كانوا هم الأكثر تفاعلا مع ثورات الربيع العربي، ومنها الثورة المصرية.
تقول هيلاري في مذكراتها (ص 331): "انجرف بعض مساعدي الرئيس أوباما في البيت الأبيض مثل كثر غيرهم من الشباب في العالم في درامية تلك اللحظة ومثاليتها، وهم يشاهدون الصور من ميدان التحرير على التلفزيون. اندمجوا مع التطلعات الديمقراطية للمتظاهرين المصريين الشباب، ومعرفتهم العلمية والتكنولوجية. في الواقع تأثر الأمريكيون من كل الأعمار.. لكنني قلقت مثل نائب الرئيس بايدن ووزير الدفاع بوب غيتس، ومستشار الأمن القومي توم دونيلون، ألا نُعد كأننا تخلينا عن شريك قديم، لنسلم مصر وإسرائيل والأردن والمنطقة كلها إلى مصير مجهول وخطر".
وتمضي في تبرير
تحفظها تجاه الثورة المصرية متسائلة: "ماذا لو طلبنا من مبارك التنحي ورفض، وتمكن من البقاء في السلطة؟ ماذا لو تنحى وتلت ذلك مرحلة طويلة من الفوضى الخطرة أو حكومة غير ديمقراطية تخلفه، تعارض في شدة مصالحنا واهتماماتنا الأمنية؟ في الحالتين ستختلف علاقتنا عما كانت عليه، ويقوض نفوذنا في المنطقة، وسيرى الشركاء الآخرون طريقة تعاملنا مع مبارك فيفقدون الثقة بعلاقتهم معنا" (ص 322).
هذه هي الحقيقة التي يحلو لأنصار النظام تجاهلها، بل تزييفها واختراع وقائع أخرى ونسبتها إلى هيلاري كلينتون، للتدليل على وقوفها خلف ثورة 25 يناير، ودعمها لشباب الثورة، وكذا دعم الإدارة الأمريكية للإخوان المسلمين للوصول إلى الحكم. ولكن من لطف القدر أن تنشر إدارة ترامب هذه الدفعة الجديدة من الرسائل لتعيد - من حيث لا تقصد - الاعتبار للرئيس مرسي الذي ظلمه الكثيرون، وافتروا عليه الكثير من الأكاذيب، وأصبح من واجبهم الآن الاعتذار له في قبره.