قد لا نبالغ في شيء إذا قُلنا إنّ أكثر الأسئلة المنهجية حساسية بالنسبة للوعي العربي هو ذلك السؤال المتعلّق بسبب حال التردي والتشرذم والانقسام والتناحر الذي تعيشه المنطقة والشعوب العربية منذ عقود بل ومنذ قرون. وإنّ من أهمّ الأسئلة المتعلقة بأسباب حال الأمة اليوم ذلك السؤال المتعلق بمكمن الداء وموقع العلّة ومحلّ الخلل وهو السؤال المنهجي الأبرز الذي يمثل في حال القدرة على الإجابة عنه مرحلة متقدمة في تشخيص الداء وصياغة الدواء.
القراءات والتحاليل والدراسات التي انبرت لمعالجة أسباب تخلف الأمة عن ركب الحضارات والأمم أكثر من أن تُحصى وأن تُعدّ، وهي مقاربات تختلف وتتباين بحسب خلفياتها الفكرية أو الايديولوجية أو العقائدية. وهو الأمر الذي منعها من أن تقدّم قراءة موضوعية متأنّية ومتحرّرة من إكراهات الإسقاطات الفكرية والمسلمات الذهنية التي تعيق كل عملية تحليلية رصينة.
لكنّ الأمر المُشجع على طرح هذا السؤال لا يتعلّق بخاصيته الزمنية الملحّة بل يتصّل أساسا بالسياق الجديد للمنطقة العربية وما يطرح المشهد العربي المشتعل من ضرورة إعادة طرح السؤال على ضوء الأحداث الجسيمة التي عرفها العالم العربي الإسلامي منذ انفجار ثورات الربيع إلى اليوم.
المشكل أو الأزمة
ما هو مشكل الأمة؟ وما سبب تخلفنا؟ السؤال يبدو صعبا لكلّ منظّر متفلسف لكنّ الجواب في الحقيقة بسيط يسير. سبب تخلف الأمة هو الاستبداد السياسي وكل الأسباب الأخرى التي قد يوردها بعضهم لا يمكنها أن تخرج عن إطار هذا السبب المركزي. الاستبداد السياسي وانعدام الحرية وغياب القدرة على التعبير والتنظم والمشاركة في الحياة السياسية هو السبب الأساسي لانهيار الأوطان العربية وكل الأسباب الأخرى ليست إلا نتيحة حتمية متفرعة عن هذا السبب المركزي.
الأنظمة الاستبدادية العربية عسكرية كانت أمّ وراثية أم أمنية هي السبب الأساسي في الحالة التي وصلت إليها الأوطان من انهيار وتفكك.
لنأخذ مثلا مشكل الفساد باعتباره أهم سرطان ينخر جسد الأمة والوطن وهو المسئول الأول عن حالة الخراب والدمار التي أضحت عليها المجتمعات والاقتصاديات والثقافة العربية. الفساد لا يمكن له أن ينشأ وأن يتطوّر وأن يتمدد دون الاستبداد السياسي الذي يوفّر له الحاضنة التي منها يتنفّس وبها يعيش. إن نهب المال العام وانتشار الجريمة واستفحال السطو وغياب العدل وتطبيق القانون وانهيار البحث العلمي وتردي الأخلاق وتدهور القيم ... كلها مظاهر من مظاهر الفساد ونتيجة حتمية له.
فالأنظمة الاستبدادية العربية عسكرية كانت أمّ وراثية أم أمنية هي السبب الأساسي في الحالة التي وصلت إليها الأوطان من انهيار وتفكك. إنّ نجاح هذه الأنظمة في السيطرة على كل مظاهر الحياة سياسة ومجتمعا واقتصادا وثقافة وفنا وقيما هو الذي منع الأوطان من القدرة على تحقيق ما أنجزته شعوب وأمم أخرى من تقدم ورقيّ وفعل في التاريخ والزمان. إن هاته الأنظمة هي في الحقيقة امتداد طبيعي وموضوعي للمنظومات الاستعمارية العسكرية الذي بقيت الأوطان العربية ترزح تحت وطأتها طيلة عقود طويلة. هذه الخلاصة هي التي تجعل من المعركة مع الاستبداد جولة من جولات الحرب من أجل الحرية والاستقلال وبناء السيادة الوطنية.
المشكل في الخارج أم في الداخل؟
قسم كبير جدّا من الأدبيات السياسية العربية يرى أنّ سبب تردي أوضاع الأمة إنما يقع في الخارج أي خارج المنطقة العربية نفسها. الوطن العربي حسب هذه القراءة ليست إلا ساحة تظهر عليها نتيجة فعل هذا الفاعل الخارجي المتحكّم في كل مفاصل الحياة من سياسة واقتصاد ومال وثقافة وفن ومأكل وملبس. الصهيونية والامبريالية والاستعمار والشركات المتعددة الجنسيات والبنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحتى الصين والمخابرات الدولية.... هي السبب الأساسي لما نحن فيه من تخلّف وتشرذم.
لابد من الإشارة هنا إلى أن كل فريق يصوغ نظريته بحسب موقعه الفكري والطائفي والعقائدي بل وحتى الطبقي من العدوّ الخارجي. فالأدبيات القومية ترى في الاستعمار والقوى اللبرالية هذا العدو الخارجي في حين تعتبر المدارس اليسارية رأسَ المال والنظام الرأسمالي العالمي سبب تخلف المنطقة العربية.
أما المدارس الإسلامية فلا تخرج عن هذا التصور لكنها تصبغه بمسحة عقائدية عندما تصنف الغرب المسيحي أو اليهودي أي غير المسلم سببا أساسيا في انهيار الأمة وتخلفها وبقائها تحت الاحتلال والاستبداد. يمكن كذلك من زاوية أخرى أن تصنّف بعضُ الأنظمة العربية الخارجَ حسب نظامها السياسي كأن ترى بعض المدارس والأنظمة الدينية مثلا في إيران الشيعية سببا من أسباب سقوط حواضر عربية كثيرة فتقدّمها على بقية القوى الأخرى في تصنيف أعداء الأمة. الآخر أو الخارج هو عند كلّ هذه المدارس السبب المحوري للأزمة التي تعاني منها المنطقة وإليه وحده يعود تفسير حالة الانحطاط التي نعاني منها جميعا.
الصراع في المنطقة العربية ليس صراعا مع الخارج فهذا هو قانون الأمم والحضارات عبر التاريخ والبقاء فيها للأقوى لكنّ المعركة الحقيقية تُدار في الداخل ضد الاستبداد والفساد والتزييف الذي تقوده كل القوى والمجاميع السياسية والفكرية والثقافية التي تعيش بالاستبداد وتتنفس به.
لكنّ ما لا تقوله هذه الأدبيات وما تسكت عنه أهمّ ممّا تقوله لأنّ تصدير المشكل نحو الخارج سيُعفي الداخل والقائمين عليه من كل مسؤولية ومن كل محاسبة. إنّ ذريعة الصهيونية والغرب الاستعماري واللبرالية المتوحشة والشركات المتعددة الجنسيات والمؤامرة الخارجية على الأمة... ليست في الحقيقة إلا ذرائع لصرف النظر عن موطن الداء ومكمن الخلل.
إنّ أهمّ دروس الثورات العربية التي لا تزال مساراتها تتفاعل هو قدرة هذه الثورات والوعي الناتج عنها على كشف الاتجاه الحقيقي وتحديد المكامن الفعلية لسبب انهيار الأمة وتفكك بنيانها ورضوخها لمنظومات الاستبداد المختلفة.
لا يُحمّل هذا الاستنتاج شعوب المنطقة مسؤولية حالة الأوطان لأنها أوّل ضحاياه وهي التي تدفع الثمن باهظا من واقعها ومن مستقبل أبنائها. بل إنه يحمّل المسؤولية كاملة للنخب العربية السياسية والفكرية التي نجحت لعقود في تزييف الوعي الجمعي عبر المشاركة في حجب حقيقة الصراع عن قصد أو عن غفلة.
الصراع في المنطقة العربية ليس صراعا مع الخارج فهذا هو قانون الأمم والحضارات عبر التاريخ والبقاء فيها للأقوى لكنّ المعركة الحقيقية تُدار في الداخل ضد الاستبداد والفساد والتزييف الذي تقوده كل القوى والمجاميع السياسية والفكرية والثقافية التي تعيش بالاستبداد وتتنفس به. إن حسم معركة الداخل من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وتطبيق القانون هو المدخل الوحيد القادر على إخراج الأمة من طور المفعولية إلى طور الفاعلية.
لن يحدث مرة أخرى.. الإسلام يعيش (...) في كل بقاع العالم
العرب.. أوجاع اليقظة بعد حصاد الربيع