أيهما أيسر وأسهل أن يبقى المرء أو الدولة أو الجماعة مستعدا للدفاع عن نفسه إزاء الأخطار التي يمكن أن تتهدده، أم أن يتسلح بالخنوع والذل ويحمي نفسه من مصادر الخطر بتطويع نفسه أداة وعبدا ومطية للآخرين؟
الاستعداد للدفاع عن الذات يتطلب السهر والإعداد والتحصين لكي يكون المرء قادرا على المواجهة وردع العدوان، والحفاظ على العزة والكرامة والاستقلالية وعلو الشأن والمحافظة على الذات. يتطلب السهر جهودا وإبداعا ومواظبة عملية وفكرية وابتكارا وتطويرا مستمرا للقدرات المعنوية والمادية، ويتطلب تدريبا وتنظيما وطاقة إدارية مهنية عالية المستوى العلمي والأخلاقي. والمهم ألا يغفل المرء عن حصانته الأمنية، ولا عن تتبع مصادر الخطر وما تنطوي عليه من مفاجآت ودسائس ومؤامرات ومثالب وخداع.
أما الخنوع والذل فلا يتطلب تلك الجهود والأموال، وإنما يتطلب فقط نفسية مريضة لا تحترم نفسها ولا تبحث عن عزة وكرامة وطيب أخلاق وتطور علمي وإداري مهني. إنه يتطلب نفسية متهالكة مستهلكة لا تقدر ذاتها وليست معنية في البحث عن الذات، ولا تهتم إلا بالبقاء وليس الحياة. البقاء المادي الجسدي والشهوات المرافقة له هو خالص اهتمامها حتى لو تحولت إلى مجرد حيوان مستهلك يعطف عليه مصدر الخطر مقابل استعبادها واسترقاقها. إنه يتطلب نفسية عقيمة لا تؤمن بالذات الإنسانية ولا تعرف معناها وقيمتها. الاحترام الذاتي بالنسبة لها لا معنى له، واحترام الآخرين لها ليس مطلوبا. وباختصار، هذه نفسية تتساوى مع نفسية البهيمة أو الكلب التي تطوع نفسها للامتطاء والأعمال الشاقة مقابل فتات من الطعام يبقيها على قيد العيش.
قادة السودان لا يخجلون بتاتا من تبرير انصياعهم للإرادة الأمريكية والصهيونية مقابل فتات المال. إنهم جاهزون للامتطاء والاستعباد مقابل مال يمكن أن يوفروه لأنفسهم إذا أحسنوا صنعا من النواحي الإدارية والاقتصادية.
ويبدو لي من خلال التجارب وخبرة الحياة الطويلة أن أعداء الأمة العربية قد صنفوا الأنظمة العربية في أغلبها في خانة النفوس المريضة الخانعة القابلة للامتطاء والاستخدام. أعداؤنا لاحظوا جيدا أن سقف المطالب أو الأهداف العربية ينخفض تدريجيا مع الزمن حتى يصل إلى درجة التخلي عن التطلعات والآمال والرجاء. كانت مطالب العرب كبيرة وطموحة جدا بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. تطلع العرب إلى الوحدة العربية وطرد الاستعمار والتطوير العلمي والتقني وتحرير فلسطين. ولاقت هذه التطلعات التفافا جماهيريا عربيا واسعا، لكنها أخذت تضمحل مع الزمن وتنخفض إلى أن لامست أرضية التخلي والعزوف. لم تعد للعرب تطلعات وأهداف مستقبلية جمعية يمكن أن تجتمع حولها الشعوب وتتمسك بها الأجيال. ربما يكون لدول عربية انفرادية بعض التطلعات، لكن ذلك التطلع الجمعي لم يعد قائما. الاستعمار بقي جاثما على صدورنا، وفلسطين تقلصت إلى حد التلاشي، والتخلف العلمي والأخلاقي ما زال يميزنا بقوة.
هذا ينطبق بقوة على القضية الفلسطينية التي تقلصت الأهداف بشأنها إلى الرجاء بإقامة دولة فلسطينية على جحر في الضفة الغربية. وقد وجد العرب في ذلك ما يخلصهم من تبعات التحرير فقالوا إنهم يرضون بما يرضى به الفلسطينيون. منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت بمغتصب الأرض ومشرد الشعب، وسار خلفها عدد من الأنظمة العربية، ويبدو أن آخرين سيلحقون.
وبناء على تجارب الصهاينة ورعاتهم الأمريكيين، تولدت لديهم قناعة عبر عنها رجل المخابرات الصهيوني لي عندما كنت تحت التحقيق بالقول: "إن العرب كالسجاد العجمي، تزهو ألوانه كلما دست عليه،" لم أبلع جملته ووجهت له كلاما قاسيا كلفني المزيد من أيام الاعتقال. لكن من المؤسف أن تطورات الأوضاع في الساحة العربية تؤكد صحة كلامه جزئيا على الأقل. واضح الآن أن شعار السلام مقابل الحماية يعبر عن هذه النفسية العربية المريضة والتي تصف تطورات الأنظمة العربية. الإمارات والبحرين ومعهما دول خليجية أخرى تبحث عن الحماية وتجدها لدى أعداء الأمة العربية. فلا مانع من القبول بالاستعباد والذل والمهانة والخنوع والرضوخ والامتطاء والاسترقاق من أجل أن يبقى النظام. من ماذا تريد هذه الدول أن تحتمي؟ هي تتحدث عن أعداء وهميين مثل إيران، لكن خوفها يأتي حقيقة من ذاتها. هي لا ثقة لها بنفسها بسبب الظلم والقهر الذي تمارسه ضد شعوبها ومن تبذيرها للأموال وفسقها واستهتارها بمقدرات الشعوب ومصالحها. ودائما الفاسدون الظالمون يخشون سوء صنيعهم لأنه ينقلب عليهم في النهاية. دول التطبيع تريد حماية لنفسها من نفسها، وأمريكا والصهاينة لديهم الاستعداد لانتشال هذه الأنظمة من الانهيار إذا أزفت الساعة. وعليه فإن الذل واجب مقدس بالنسبة لأنظمة قبلية همها الوحيد محصور في البقاء.
وليس من دليل الحماية مقابل السلام المهين أقوى مما تصنعه السودان. قادة السودان لا يخجلون بتاتا من تبرير انصياعهم للإرادة الأمريكية والصهيونية مقابل فتات المال. إنهم جاهزون للامتطاء والاستعباد مقابل مال يمكن أن يوفروه لأنفسهم إذا أحسنوا صنعا من النواحي الإدارية والاقتصادية. لكن حسن الصنيع يتطلب السهر والتدبير والابتكار وهذا ما لا تقبله النفسية المريضة فتتلهف إلى الانبطاح والامتطاء. وما قيمة كسب العالم مقابل فقدان الذات وتمريغها بالأوحال والمستنقعات؟ أجيبوا يا أنظمة الخيانة والسقوط.
هل ستدفع مصر ثمن التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي؟