ما يحدث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون، من دخول في حملة إساءة للإسلام تحولت لمعركة كسر عظم، مرده لوقوعه في الكثير من الأخطاء في التقدير والتعبير، وسوء التعامل مع أزمة تتفاقم، وتستحيل إلى أزمة دبلوماسية بين باريس من جهة ودول مسلمة كثيرة، ومن بين هذه الأخطاء:
1- في خطابه المثير للجدل نقل ماكرون الأزمة، من أزمة بين دولة ومواطنيها من معتنقي ديانة معينة، إلى أزمة دين بكل ما يحمله من قيم وأفكار وما يمثله لمليار ونصف شخص يعتنقونه. ولو قدر ماكرون أن المسلمين في
فرنسا يعيشون أزمة لقيل إنه رئيس يخاطب مواطنيه، رغم ما فيه هذا الحكم من حيف وإجحاف، بل إن الرئيس الفرنسي فقز مباشرة للحديث عن الإسلام كدين ووصمه بأنه يمر بأزمة، وهذه لم يسبقه لها أي زعيم غربي سابق، فحتى الرئيس الأمريكي جورج بوش وبكل حروبه ضد دول مسلمة كان يتحدث عن محوري الشر والخير، ولم يصف أبدا الإسلام بأنه دين مأزوم، ولا حتى الرئيس ترامب، فكل مواقفه الشعبوية تسيء للمسلمين وليس للإسلام.
2- وقع الرئيس الفرنسي، في حالة من التضخم غير المبرر وغير المبني على أساس معقول، وظهرت مؤشرات هذا التضخم منذ وصوله للحكم، فحاول تقديم نفسه كمنقذ للمشروع الأوروبي بعد انسحاب بريطانيا، لكنه لم يوفق، ولا هو نجح في فرض حليفه في ليبيا، وحتى دول أفريقية ظلت مجالا حيويا لفرنسا باتت الآن تخرج من قبضة باريس. وحاول ملء الفراغ في لبنان، لكن دون جدوى، في حين أن خطابا بهذه الإساءة لا يمكن أن يصدر سوى عن دولة بل إمبراطورية لها من القوة والمنعة ما يجعلها قادرة على مواجهة أي موجة غضب.
3- الإمعان في الاستفزاز، وعدم محاولة لملمة الأزمة، ذلك أن تصريحات ماكرون عن "أزمة الإسلام" كاد أن يتلاشى صداها، لولا الحادثة الشنيعة التي أودت بحياة أستاذ في فرنسا، حينها عاد ماكرون لنفس الخطاب، وهذه المرة ربط حرية التعبير وفن الكاريكاتور بالإساءة للأديان، علما أنه هو نفسه قرّع صحفيا وأمام الملأ لنشره خبر لقاء ماكرون مع نائب عن حزب الله واعتبر الرئيس أن الأمر يمس أمن الدولة، فأين هي حرية التعبير غير المقيدة؟
4- التعريف الفرنسي لحرية التعبير، والذي أصبح حكرا فقط على الإساءة للأديان ورموزها، في حين أن الأمر يختلف تماما في الصحافة الأنجلوفونية، التي دخلت في مواجهة مع صحيفة شارلي إيبدو والجناح اليميني من الصحافة الفرنسية، للتأكيد أن حرية التعبير لا تعني أبدا استفزاز القارئ ولا الإساءة لمعتقداته، ولا التحريض ضد أي مجموعة.
5- الأهداف الانتخابية الواضحة لتحركات ماكرون وتصريحاته، فالرجل ومباشرة بعد ظهور استطلاعات رأي تظهر تقدم زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين، إلا وقام باستدارة كاملة نحو الجمهور اليميني الشعبوي ليُسمعه ما يريد، فهذا رئيس لا يريد أن يرحل مع ولايته الأولى.
6- لم يكن الرئيس الفرنسي يتوقع أن تصريحاته الموجهة بالأساس للداخل الفرنسي وللناخب في فرنسا، ستجد لها أصداء في كل أنحاء العالم، ولا أحد يعرف كيف وهو رجل الاقتصاد والمال الماهر؛ لم يدر بخلده أنه يضع مصالح بلاده الاقتصادية في خطر، جراء حملة المقاطعة التي يبدو أنها أصبحت فعلية على أرض الواقع، بدليل بيان وزارة التجارة الخارجية المطالب (وإن بصيغة الأمر) بالكف عن الدعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية.
7- الرهان الخاطئ للرئيس الفرنسي على صراع دول عربية بعينها مع الإسلام السياسي، واعتقاده أن هذا الصراع يتيح له الهجوم على المسلمين وحتى على الإسلام بأريحية وهو ضامن لدعم هذه الدول بشكل علني، في حين أن الخلط بين الإسلام السياسي والإسلام، وضع حتى هذه الدول في حرج الدفاع عن الرئيس الفرنسي على الأقل علنيا، بل على العكس دول إسلامية كثيرة استنكرت تصريحات الرئيس الفرنسي، أيضا إعادة نشر الكاريكاتور المسيء للنبي عليه السلام.
8- نشر الرسوم المسيئة للنبي عليه السلام على واجهة بنايات حكومية، أقحم الدولة الفرنسية كجهاز وظيفي يقوم على مبادئ
العلمانية المفترض فيها الحياد تجاه جميع الأديان، في حين أنه حتى في دول ينتظر فيها اليمين الشعبوي ويقودها رؤساء شعبيون، تحافظ مؤسسات الدولة على حيادها، بل على العكس تحارب الحركات المتطرفة والمحرضة على أي دين أو أقلية. وهذا الإقحام ليس في صالح الدولة الفرنسية، التي سيمر عليها ماكرون كما مر آخرون، لكنه الآن أدخلها في معركة تسيء لها وتؤثر على وضعها العالمي والإقليمي.
9- ساهم الرئيس الفرنسي من حيث لا يعلم، في تسليط الضوء على أزمة حقيقية يعاني منها المسلمون في فرنسا، من تحريض وعنصرية، ففي السابق كان يتم تبرير العديد من الممارسات ضد المسلمين بأنها لمواجهة التيار المتطرف، بينما يظهر تدريجيا أن "المسلم الجيد في نظر فرنسا هو الشخص غير المسلم" كما قال المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا، ما سيعطي لمرافعات المسلمين ضد كل هذا التضييق مشروعية أكثر ودعما أكبر.
10- وأخيرا تدفع تصريحات ماكرون للغوص أكثر في عمق الأزمة التي تعيشها فرنسا، فالدولة العلمانية التي سحبت الله من الدين، وجعلت من نفسها فوق أي دين، تعيش أزمة وجودية، خصوصا مع الحركية التي يعرفها أبناء المسلمين من الجيل الرابع الذين باتوا أكثر ظهورا في كل مناحي الحياة العامة الفرنسية، ومعهم تظهر هويتهم الإسلامية، وهذا ما يستفز الدولة بنموذجها العلماني الصلب الذي انتقده الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، عندما اعتبر أن العلمانية تحولت في فرنسا من إقامة الحياد مع الدين إلى السعي للقضاء على أي شكل من أشكال الدين في الفضاء العام.