بكل ما أوتيت من قوة، أسقطت "لي لي" يدي أدهم اللتين تمسكان بكتفيها وتهزهما صارخة بصوت مكتوم مصحوب بضحكة تحمل كل عذابات الحياة:
الجحيم؟؟! ماذا تعرف أنت عن الجحيم؟
توفر لها الحماية والسند؟! ثم ضحكت بطريقة هيسترية وهي تقول له: أمممم السند؟
اقتربت منه ونظرت بعينه وبصوت هامس قالت: لا يوجد أحد سند لأحد وهزت رأسها علامة التأكيد أنت سند نفسك.
لو أنك عشت بمصر لعلمت أن تلك الكلمة لم يعد لها وجود، كما هو حال كلمات كثيرة اختفت من القاموس هناك، كالنخوة، والشهامة
- عندما تختطف فتاة من الشارع أمام عشرات الرجال، فلا يتحرك واحد منهم دفاعا عنها.
- عندما تصرخ فلا يسمعها أحد.
- عندما تعصب عينيها فلا ترى شيئا، لكنها تشعر بأيدي كثيرة تلمسها تنتهك حرمة جسدها، تغتصب طهارتها، تصرخ وتصرخ فتبكي لصرخاتها جدران زنزانتها.
- يذهب صوتها من كثرة الصراخ والاستغاثة، لكن من حولها لا قلوب لهم لتشفق على حالها ولا آذان لتسمع أنينها.
فتصمت، تهان وتصمت، تضرب وتصمت.
تصمت وتصمت، فهل بعد ما اغتصبوا طهارتها شيء يؤلم؟ وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟
حفلات تعذيب يوميه لبقايا فتاة كل جريمتها أنها حلمت أن تعيش بوطن حر.
جريمتها هي الحلم، ففي بلادنا ممنوعة الأحلام.
هي لم تخرج من ذاك الجحيم إلا لأنهم ظنوا أنها ماتت فألقوها بالطريق شبه عارية، لتجدها أم معتقل كانت عائدة لبيتها بعد أن رُفضت زيارتها لابنها، أخذتها عندها وعالجتها لتسترد عافيتها قليلا، ثم سألتها عن حكايتها ومن هي..
حكت لها الفتاة كل حكايتها، لكن الغريب أنها لم تذرف دمعة واحدة وكأن كل دموعها انتهت.
ذهبت السيدة لبيت الفتاة لتطمئن أباها على ابنته الوحيدة، فوجدت أن الرجل مات قهرا على اختفاء ابنته.
حتى الشخص الذي أحبته وقررا أن يتشاركا حياتهما وحلمهما كان لا يزال مختفيا، فقد تم القبض عليه قبل اختفائها بأيام ولا يعلم أحد عنه شيئا، ربما مات أو ما زال محتجزا داخل الجحيم الذي كانت فيه.
التفت تنظر لوجهه الذي استحال لقطعة فحم مما تروي.
لتأتي "لي لي" بالجملة القاضية التي كان يخشى سماعها: هذا هو الجحيم الذي أتيت لك منه.
حاول أن يمسك يدها ولكن نظرة منها جمدته في مكانه، أتريد أن تعرف باقي
القصة؟
هز رأسه نافيا، فقالت له دون اكتراث برفضه: بعد أن أصبحت لا أملك في تلك البلاد شيئا، حتى اسمي لم أعد أستطيع استخدامه، فماذا لو عرفوا أني ما زلت على قيد الحياة؟
لم أعد لبيتي، اختبأت بعيدا عن كل من يعرفني، غادرت بيت تلك الأم التي ربما كانت آخر البشر في تلك البلاد، فلن أكون سببا في أذى لها أن علموا بوجودي عندها.
تحركت خطوات لتقف أمام زجاج النافذة تتطلع للبحر، وأخذت تحدثه هو ونسيت وجود أدهم.
كم هو صعب أن تحيا فتاة في ذاك العالم وحدها.. وابتسمت.. أتعلم كم بيتا سكنت وكم عملا تركت؟ لأننا في مجتمع مريض بالقهر، أفراده لا يرحمون بعضهم، فكل منهم يبحث عمن هو أضعف منه ليقهره ويكيل له من القهر مكيالين.
محدثة البحر: أتذكرني؟.. كم مرة أتيت لأجلس أمامك أحدثك لأنسى ذاك الجوع الذي يلتهمني.. وبضحكة عالية مرعبة التفتت لأدهم وكأنها تذكرت وجوده.. سيدة الجليد المتعالية جائعة لا تملك طعاما.. أتتخيل؟
اقتربت من أدهم، وهي تنظر بعينيه لماذا تحولت عيناك لعيون زجاجية باهتة هكذا... ها؟!
أنت تسمع فقط عن الجحيم لم تمر بأعتابه حتى..
سيدة الجليد ضاقت بها الأرض التي حلمت بحريتها، فلم يعد لها فيها بيت أو عمل أو.. صمتت وابتلعت غصة خفت فيها صوتها لتكمل.. ولا أحبة.
كان هذا البحر شاهدي الوحيد..
قررت أن أكون شخصا آخر كي يمكنني أن أحيا..
اسم جديد، حياة جديدة، ووطن جديد، هزت رأسها.. نعم وطن جديد..
فتلك الأرض لم تعد وطنا بل سجنا، والكل فيه جلاد بعد أن غاب السند. وابتسمت وهي تربت على صدره بسخرية مرددة بتهكم يا سند.
تحركت تجاه الباب برأس مرفوع وهي تقول له: السند هو أنا، أنا فقط.
وخرجت وأغلقت الباب بقوة وتركته وسط دوامة من التخبط.