يقدم الفيلسوف التونسي البروفيسور أبو يعرب المرزوقي، في هذه الأوراق التي تنشرها"عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور أبو يعرب على صفحته الرسمية، قراءة علمية لواقع النخب في العالم العربي، وعلاقتها بالتغيير المنشود.
ومعلوم أن أولى خطوات العلاج أو الحكم على الشيء تبدأ أولا من التشخيص، وهذا ما انطلق منه الدكتور أبو يعرب؛ في محاولة لتفكيك مفهوم النخبة وعلاقته بالمجتمع في مختلف مكوناته المعرفية والدينية والاقتصادية والسياسية.
وإذ تنشر "عربي21" هذه الورقة في حلقات كل يوم جمعة من الأسبوع، فإنها تسعى لتوسيع النقاش بين المنشغلين بقضايا الفكر العربي حول دور النخب في صناعة التغيير الجاد، وإنجاز مطالب الشعوب في التنمية على جميع المستويات.
محميات عربية
أعجب ممن لا يعجب من سلوك حكام قوى عظمى، يخضعون لابتزاز لوبيات صهيونية مثلهم مثل حكام محميات، مثل: الإمارات والبحرين، وقبلهما مصر والأردن، ولنقل كل المحميات العربية؛ ذلك أن الظاهرة واحدة وهي قد بدأت تظهر علاقتها بدين العجل في مرحلة مهمة من التاريخ الحديث، عندما أراد ولي العهد الألماني ضمان نجاحه في أن يصبح قيصر المسيحية ـ شارل الخامس في حرب علنية مع البابا ومع الخلافة العثمانيةـ، فطلب التمويل من البنوك اليهودية وشجع لوثر في عملية الإصلاح للتحرر من سلطان الكنيسة، حتى يصبح مثل الحكم العثماني غير خاضع للوساطة الروحية ووصاية الحكم بالحق الإلهي التي تترتب على موافقة البابا. وكان شرط اليهود إزالة تهمة الكاثوليكية لليهود بخيانة المسيح والتآمر عليه مع روما لصلبه.
وإرجاع التوراة مصدرا دينيا أهم من الأناجيل التي هي في الحقيقة دحضها، وليست ناتجة عنها عند من يطلع عليها ولا يخضعها، لتحيل أول محاولة لتحقيق الصلح بينها وبين الأناجيل قصدت صاحب الرسائل إلى الوثنيين أي غير اليهود.
فما يسمى بالمسألة اليهودية هذا أصلها: كيف صارت الحيتوات اليهودية التي هي انتباذ ذاتي ممن يتصورون أنفسهم شعب الله المختار، ونبذ شعبي لهم بسبب ما لهم من سلطان على النخب الحاكمة والمربية في الغرب، وهو سر السلطان السياسي المبني على السلطان الاقتصادي (معدن العجل والعملة) والثقافي (خوار العجل والكلمة) للسيطرة على سر القوة المادية التي تمكن من المائدة والسرير، وسر القوة الروحية التي تمكن من فنيهما ومن منزلة الدنيا التي تقدم على ما يتعالى عليها. بل ويصل إلى نفسه لأن اليهودية ليس لها ما بعد عالم الشهادة، ولا تعترف بالبعث والحياة الأخرى.
وبهذا المعنى، فالتطبيع في الإقليم له الدلالة نفسها التي كانت له بين شارل الخامس وأصحاب السلطة الاقتصادية والثقافية على النخب بأصنافها الخمسة. فهي اليوم بينهم وبين حكام الغرب، وبينهم وبين توابعهم من حكام العرب.
وهكذا نصل إلى المدخل السياسي الجامع لكل تمظهرات فاعلية بعدي العجل معدنه وخواره ـ قبل أن نصل إلى المدخل المعرفي والقيمي في الفصل الخامس والأخير ـ لضرورة العلاج السياسي الأشمل، الذي يعتمد الأصل الواحد المشترك بين الديني والفلسفي؛ إما ذهابا من عالم الشهادة والعلم إلى عالم الغيب والإيمان (فلسفيا)، أو ذهابا من عالم الغيب والإيمان إلى عالم الشهادة والعلم (دينيا).
وذلك ـ كما سبق أن بينا في الكثير من المحاولات ـ بسبب استحالة الاكتفاء بأحدهما وهي حقيقة انبنى عليها علاج القرآن للسياسي الشامل لعلاقة عالم الشهادة بعالم الغيب (وذلك هو الواحد بين الفلسفي والديني)، والمخصوص المقصور على قوامة الرعاية والحماية، (وذلك هو موضوع علم السياسة بمعنى تدبير حياة الجماعة):
1 ـ فالفلسفي أساسه إيماني غير صريح: فلولا الإيمان غير الصريح بوجود شيء يدركه بحواسه وبانتظام فيه يتأسس عليه تعقله لما فيه من قابلية للعلم، وبوجود ذات قادرة على الإدراك والتعقل، لاستحال الشروع في البحث العلمي؛ فلا يكون له لا فلسفة ولا دين. والمطلوب بيان الإيماني غير الصريح في الفلسفي: شروط البحث العلمي بدايتها الإيمان بها وغايتها الإيمان بالمعنيين إيمانا، وإيمانا بحدود الإيمان: تجربة الشك المعرفي بين البداية والغاية.
2 ـ والديني أساسه علمي غير صريح: فلولا العلم غير الصريح بأن ما حوله وحتى ذاته يدرك أنهما ليسا من صنعه ولا يخضعان لإرادته، لأنهما متقدما الوجود عليها لاستحال عليه أن يؤمن بشيء ولاستحال عليه أن يعتقد، فلا يكون له دين ولا فلسفة. والمطلوب كذلك بيان العلمي غير الصريح في الديني.
شروط البحث الإيماني بدايتها العلم وغايتها العمل بالمعنيين عملا وحدودا: الشك القيمي بين البداية والغاية حول علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب. وبذلك فمشكل المشاكل هو علاقة سياسة عالم الشهادة بسياسة عالم الغيب: أي دلالة "المابعد" الخَلقي ودلالة المابعد الأمري.
ولفهم طبيعة دور العجل تشخيصا لتحدد العلاج وقاية وتداركا، لا بد إذن من دراسة مسألة السياسة الأساسية التي تتعلق بدور المسألة المعرفية والمسألة القيمية؛ من حيث هما علاج لعلاقة الإنسان بالآفاق والأنفس؛ أي بالطبيعة والتاريح وبكيان الإنسان العضوي وبكيانه الروحي وكلها تدور حول الرزقين:
1 ـ المادي موضوع العمران البشري الأساسي، وما يترتب عليه من تعاون في التبادل الذي هو مقوم العمران البشري، بوصفه مجال سد الحاجات العضوية وما يتبعها من مكملات ولها صلة بالمائدة والجنس.
2 ـ والروحي موضوع الاجتماع الإنساني الأساسي، وما يترتب عليه من تفاهم في التواصل الذي هو مقوم الاجتماع الإنساني، بوصفه مجال سد الحاجات الروحية وما يتبعها من مكملات لها علاقة بفن المائدة وفن السرير.
لكن السدين يجريان في مناخ من التنافس عليهما بسبب إشكالية توزيع الثروة والتراث، فتصبح بإشكاليتي سد حاجات المائدة وفنها وسد حاجات السرير وفنها مسألة جوهرية في السياسة؛ لأن التنافس يغلب عليه اللجوء إلى التحيل والعنف، وما يسميه ابن خلدون "مد اليد" لمال الغير ولشرفه.
وبعلاجهما يعلل الحاجة إلى الوازع الأجنبي؛ لأن الوازع الذاتي لا يكفي، بمعنى أن الحكم ضروري ولا تكفي التربية. والمائدة والسرير ينتسبان إلى علاقة الإنسان بالطبيعة وبكيانه العضوي والثروة، وما يترتب عليهما من سلطان، والفنان ينتسبان إلى علاقة الإنسان بالتاريخ وبكيان الإنسان الروحي، وما يترتب عليهما من سلطان.
فنفهم حينئذ، أن قضية العلاقة بين الإرادة العاقلة والمعرفة العاقلة هي عينها ما يجعل الثانية أداة للأولى في العلاقة بالطبيعة وبالكيان العضوي وبالتاريخ وبالكيان الروحي، أي أداة سياسة عالم الشهادة بمعايير سياسة عالم الغيب، الذي يكون معرفيا بحدود معرفة الموجود، وقيميا بحدود معرفة المنشود: وذلك هو مضمون سورة العصر.
المرحلة الأولى: كيف ينشأ دين العجل؟
كيف تصل الجماعة إلى دين العجل ممثلا في ربا الأموال بالسيطرة على الرزق المادي أو الاقتصاد والثروة، وممثلا في ربا الأقوال أو بعد دين العجل الثاني بالسيطرة على الرزق الروحي أو الثقافي والتراث؟ لم أفهم تغليظ القرآن الكلام على الربا إلى حد القول؛ إن الله أعلن الحرب على أصحابه قبل أن أفهم كل هذه المراحل التي تجعل المسيطر على ربا الأموال ـ معدن العجل ـ قد أصبح مسيطرا بأداة التبادل على إرادة المتبادلين.
إذا ترجمنا هذا السؤال بلغة ابن خلدون يصبح: كيف تصل أو تنتقل الجماعة من اجتماع الأحرار إلى اجتماع العبيد الذين ينقسمون إلى عبيد الأدوات وعبيد الأدوات التي تتخلص في الغاية إلى نوعين من الأدوات المسيطرة على الجميع؟ أعني أداة التبادل التي تتحول إلى سلطان على المتبادلين بمن فيهم أصحابها، وأداة التواصل التي تتحول إلى سلطان على المتواصلين بمن فهم أصحابها.
فيكون الجميع عبيدا رغم انقسامهم في الظاهر إلى سادة هم أصحاب السلطانين، وعبيد هم الخاضعون لهم. أو بصورة أوضح كيف يكون مسار الحضارة مسار تدجين الإنسان بخلاف الوهم السائد الذي يدعي أنه ينتقل من الحرية إلى العبودية بقلب ما هو أداة إلى غاية؟
وهذا الوهم ينطلي على الجميع؛ لأنه يوهم بما بلغ الغاية في نكوص هيغل ومن بعده ماركس إلى القول بالمطابقتين وحصر الوجود في ما يدركه منه الإنسان، والتسليم بأن ما في عالم الشهادة من موجود ومنشود إنسانيون، ليس له ما وراء مفارق فيصبح العالم الشاهد سجنا للإنسانية كلها، وتنسد كل الآفاق لكي يصبح الإنسان مخلدا إلى الأرض، يلهث وراء الأداتين ليكون سيدا بهما، في حين أنه عبد مثل من يتسيد عليهم.
وفرضيتي هي أن ابن خلدون وضع نظريته هذه انطلاقا من ترجمة فلسفية للرؤية القرآنية التي ترجع الداء إلى ما يفسد معاني الإنسانية؛ أي آليات تدجين الإنسان التي تتعين في فساد التربية والحكم وإلى ما يمكن من إصلاحها؛ أي آليات تحرير الإنسان من التدجين الذي يتمثل في استغلال المائدة والسرير وفنيهما.
وهذا الاستغلال يجعلهما غاية الغايات، فتكون النتيجة جعل عالم الشهادة سجنا أبديا للإنسان، فتتحول حياة البشر إلى حرب أهلية دائمة على ما يسد الحاجات التي لا ليس لها حد، وتنتهي الحرب إلى تخريب العالم الشاهد بدلا من رعايته بمقتقضى الاستخلاف فيه. ومعنى ذلك أن الحضارة تتحول إلى نقيضها؛ فتصبح تقديما للحيواني من الإنسان على ما به، يتعالى فيه على الإخلاد إلى الأرض.
فرضيتي هي أن ابن خلدون وضع نظريته هذه انطلاقا من ترجمة فلسفية للرؤية القرآنية التي ترجع الداء إلى ما يفسد معاني الإنسانية، أي آليات تدجين الإنسان التي تتعين في فساد التربية والحكم وإلى ما يمكن من إصلاحها، أي آليات تحرير الإنسان من التدجين الذي يتمثل في استغلال المائدة والسرير وفنيهما.
فتكون الثورة التي تتمثل في معاني الإنسانية التي يتكلم ابن خلدون باسمها، ثورة في مفهوم الإنسان فردا؛ له وظيفة الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها، وجماعة لا تنحصر في الجماعة العرقية بل الجماعة الكونية التي تمثلها الإنسانية (النساء 1) التي يتساوى فيها الجميع (الحجرات 13)، التي تعتبر كل ما عداها من الموجودات أمما مثلها جديرة بالاحترام وذات حقوق. وذلك هو جوهر الثورة التي مثلتها هذه الترجمة الخلدونية للرؤية القرآنية، المعتمدة على مفهومي الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.
ولم أفهم التغليظ الموازي لربا الأموال (الحرب على أصحابه) إلى حد القول: "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"؛ أي إن الكذب وذروته النفاق المتمثل في الفرق بين الظاهر والباطن قبل أن أفهم أن هذه المراحل تجعل المسيطر على ربا الأقوال ـ خوار العجل ـ قد أصبح مسيطرا بأداة التواصل على وعي المتواصلين، مثل جعل المسيطر على ربا الأموال بأداة التبادل على المتبادلين؛ فلا يبقى الإنسان مستعمرا ولا مستخلفا بل يصبح مستدمرا ومستعبدا.
ولا يمكن لهذا العلاج أن يحصل إذا لم يعالج الداعي للخوف من العجز دون سد الحاجة ـ وبه بدأت المقدمة عندما خصص بابها الأول إلى العلاقة بين ما يستمده الإنسان من الطبيعة وما يترتب على الحاجة من خوف من المستقبل ـ وتلك هي تركيم الثروة والتحيل في الحصول عليها وجعلها علة الصراع بسبب عدم العدل في التوزيع.
لكن هذه العلاقة بين سد الحاجة والخوف من الندرة، هي التي بالتدريج، وعلاجٌ للاتناهي الخوفِ، باكتشاف الحاجة إلى الماوراء الذي يطمئن، وتلك هي بداية التحرر من سلطان الطبيعة على الإنسان، بجعلها هي بدروها خاضعة لسلطان أسمى منها، سواء وضع فيها أو وضع وراءها مفارقا لها.
يصبح السؤال الخلدوني متجاوزا للفرد والجماعة المخصوصين ليشمل الإنسانية كلها؛ من حيث هي مستعمرة في المعمورة ومستخلفة فيها، فتكون أرضية الرؤية الخلدونية هي العلاج القرآني لهذه الإشكالية المتعلقة بتحرير الإنسان من دين العجل.
احميدة النيفر لـ "عربي21": هذه قصة إرهاب التديّن في أوروبا
النخب واشكالية مناعة الأمة العضوية والحصانة الروحية (5)
"الإرهاب" في أوروبا.. ظاهرة محلية أم مستوردة؟ (1من2)