ليس المبدعون فقط هم الذين يعانون من حالات الحزن أو نوبات الشك التي لا يمكن السيطرة عليها أو نقص الدافع لفعل أي شيء. كل عام نجد أن أكثر من 7 في المئة منا يشعرون بالوحدة المؤلمة، والظلام العقلي والعاطفي، والعديد من الأعراض الأخرى بدرجات متفاوتة تعزى جميعها إلى ما يسمى بالاكتئاب. قدرت منظمة الصحة العالمية عدد المصابين بالاكتئاب ١٢٢ مليون إنسان، وهو من أكثر
الأمراض النفسية شيوعاً حول العالم.
لكن المبدعين (الكتاب والموسيقيين والمخترعين والفنانين والعلماء والمهندسين المعماريين والطلاب والمدرسين، وأي نوع إبداعي آخر يمكن
التفكير فيه) يتم تمييزهم في أكثر الأحيان عندما يتعلق الأمر بالاكتئاب. فان جوخ كونه مثالا أساسيا للتعذيب الإبداعي. فهل هناك حقا صلة بين الاثنين؟
يقال إن الفن مثل الحلم، هو دائما فعل مضاد تقريبا للحياة اليومية. فالبشر يكتبون القصص لأنهم ناقصون، لكن الإله لا يكتب الروايات.
من ضمن العديد من المفكرين البارزين على مدار التاريخ الذين عانوا من
الاكتئاب، كان الخبير الطبيعي والتاريخي تشارلز داروين. لم يؤثر اكتئاب داروين في عمله النظري والعلمي فحسب، بل أصبح أيضاً موضوعاً رئيسياً في عمله. فبسبب قِدَم هذا المرض الذي كان أول ذِكر له في الألفية الثانية قبل الميلاد، وبسبب الانتشار الواسع لمرض كالاكتئاب، كان على داروين أن يحاول تفسيره، لأن نظرية التطور التي وضعها ادعت أن الأقوياء فقط هم على قيد الحياة، فبدا الاكتئاب كتجاوز كبير.
عادة ما يؤدي الاكتئاب إلى افتقار الدافع (غالباً ما يكون الدافع للأكل أو التمرين أو فعل أي شيء)، ويمكن أن يوصل إلى التفكير بالانتحار. كيف يمكن لمثل هذا الاضطراب النفسي الذي قد يعرقل تقدم الإنسان بدنياً ونفسياً أن يجد طريقه عبر آلاف السنين من التطور إذا كانت لعبة نهاية التطور هي البقاء على قيد الحياة؟ وإذا كان الاكتئاب يؤثر على البشر بشكل متنوع، فلماذا يتم تمييز المبدعين؟
مع أن العقل يعتبر موضوعاً معقداً للغاية، إلا أن عدداً لا يستهان به من علماء النفس والأطباء النفسيين يميلون إلى الاتفاق على أن الاكتئاب الشديد يتضخم في أولئك الذين يميلون إلى التفكير في أفكارهم. ويجدر بالذكر أن الاجترار (Rumination)، هو أحد مفاتيح التفكير الرئيسية في العبقرية الإبداعية.
فأن تكون مبدعاً هو أن تجد معنى في كل تفصيل صغير، جيداً كان أم سيئاً، لتفهم التفاصيل وتربطها بكل شيء تعيشه. ويميل المبدعون كطبيعة فردية إلى التفكير بشكل أكبر، والتفكير في أفكارهم نفسها أيضاً. قد يكون أفضل ما يميزهم هو التركيز على الاختلافات بين الوضع الحالي والحالة المستهدفة. وهذا يتعدى المتعارف عليه، وهو أن الاجترار يتعلق بأحداث الماضي فحسب، بل يتجاوزها إلى المستقبل. على سبيل المثال، قد يُنظر إلى الفكر المجتر الذي يؤكد أسباب وأعراض المزاج المكتئب على أنه تطور معرفي لحالة الشخص الحالية.
إن أولئك الذين يجترون يستطيعون التغلب على التجارب المؤلمة بشكل جذري، لأنهم يتعلمون من تجاربهم في كثير من الأحيان أكثر من أولئك الذين لا يتقنون الاجترار أو غير المعتادين عليه. على سبيل المثال: قد يمر شخص ما بيوم مرهق في العمل، وهو عادة لا يأخذ الوقت الكافي للتفكير في أفكاره بشكل منتظم، لذا هو عندما يعود إلى المنزل، يكون من الأسهل عليه نسيان ما مر عليه في يومه.
من ناحية أخرى، هناك أنواع معينة من المفكرين الذين يقومون بشكل طبيعي بإعادة التفكير في الأحداث المجهدة مراراً وتكراراً، والتركيز في ما حدث، وما يمكن أن يفعلوه (أو كان يجب عليهم) القيام به بطريقة مختلفة، وكيف ستؤثر تفاصيل ما حدث على بقية حياتهم، وهلمّ جراً. عادة يميل المفكرون المبدعون إلى أن يكونوا من هؤلاء، الذين يعيدون تشغيل الأحداث مراراً وتكراراً لفهمها بشكل أفضل. وكنتيجة للتركيز على هذه الأفكار، نصل إلى الاكتئاب الشديد أو الشعور باليأس.
تتجلى هذه العملية في الاكتئاب ليس عند المبدعين وحسب، فإذا وجد الشخص العادي (غير المبدع) نفسه في لحظة من التأمل العميق - خاصة حول حدث مرهق - فمن المحتمل أيضاً أن يواجه حالة من الاكتئاب، على الرغم من أن ذلك قد لا يدوم طالما استمر شخص ما في التفكير في الحدث.
بالنسبة إلى المبدعين، يحدث أن تكون الحالة الاكتئابية أطول أمداً وأكثر كثافة، بسبب رغبتهم الفطرية في مواصلة التفكير فيها، ناهيك عن محاولات المبدعين المستمرة المتكررة كنوع من الاجترار في صنع أعمالهم الفنية، التي يحاولون الوصول بها إلى الكمال. ففي كل مرة يحاول المبدع إنتاج عمل أفضل هو يقوم بالاجترار، وهذا مرافق عادة للاكتئاب. إن كل ما يتعلق بالإبداع هو كثرة التفكير، لذلك من المنطقي أن يؤدي كل هذا التفكير إلى نوبات من الهوس والشعور باليأس.
اتضح هنا أن الاكتئاب لا يجعلك مبدعاً في حد ذاته، في الواقع، العكس هو الحال في أغلب الأحيان: الشخص المبدع، الذي يقضي وقته في التفكير في الأفكار، من المرجح أن يعاني من اكتئاب كبير. الرابط هو قدرة المبدعين على أن يقرروا بإرادتهم التفكير والاجترار مع سابق الإصرار أكثر من الأنواع الأخرى من الشخصيات.
من وجهة نظر تطورية، يمكننا الآن أن نقول إن الاكتئاب هو رغبة نفسية في أن نكون أفضل، وأن نكون أقوى، وأن نفكر ملياً في ما ارتكبناه من أخطاء، ولإيجاد طرق لتحسين أنفسنا بشكل عام. تؤكد بعض الأبحاث على هذا النهج، مشيرة إلى أن الاكتئاب هو وسيلة تطورية بالنسبة لنا لتركيز اهتمامنا بشدة على ما نحتاج إلى تغييره في حياتنا. إن الاكتئاب، على الرغم من كونه عائقاً أمام حياة صحية وسعيدة، يعد فعلاً متوازناً يساعدنا في التركيز على المجالات التي نحتاج إلى تحسينها أكثر من غيرها.
بالنسبة إلى المبدعين، هذا الاكتئاب هو ما يضخم دوافعهم للقيام بعملهم بشكل أفضل. فلا يكفي أن تستمر في فعل ما كنت تفعله كمبدع، بل عليك أن تفعل أكثر من ذلك وأن تفعله بشكل ممتاز ومميز. هذا سيكون مذهلا، إذا كان يمكنك تحقيق ذلك من خلال الحالة الأولية لتدني الطاقة، بينما يمثل الاكتئاب انعكاساً للأفكار وأولئك الذين يجترون يميلون إلى المعاناة أكثر من غيرهم، إلا أن له جانباً ثانوياً يساعد في توضيح سبب تعرض المبدعين للاكتئاب أكثر من أي نوع فردي آخر.
بمجرد أن يتم تفكيرك في كل ما تسبب في البداية في زيادة مشاعر الاكتئاب، فإن التحول إلى أفكار أكثر إيجابية: مثل "لم يكن ذلك سيئاً للغاية" أو "أعرف ما يجب علي فعله الآن"، يساعد على تحفيز المزيد من الدوافع للقيام بمزيد من العمل الإبداعي.
إن النهوض من الركود الإبداعي، يعد دافعاً كافياً لإنتاج كميات هائلة من العمل. إنها دفعة حقيقية للغاية، مماثلة لتلك التي ستحصل عليها إذا تلقيت هدية عشوائية أو أخباراً رائعة غير متوقعة. ولا يقتصر الأمر على المبدعين فحسب، فإن اعتبرنا أنك لاعب كرة قدم ماهر يقع فجأة في حالة اكتئاب مؤقتة، بمجرد تعرضك لأفكارك الداخلية خلال تلك الأيام القليلة أو أسبوع الاكتئاب هذا، قد تجد نفسك أكثر تحمساً من أي وقت مضى للخروج وتسديد الأهداف بشكل محترف. حتى تصل إلى النقطة التي تذهب فيها إلى أبعد من المكان الذي كنت فيه قبل حالة الاكتئاب.
بطبيعة الحال، فإن الدافع التحفيزي غالباً ما يكون معاكساً ومساويأ لمستوى الاكتئاب. لذا، إذا كنت في حالة من الاكتئاب العميق حقاً وبدأت في الخروج منه، يمكنك أن تتوقع أن يكون الدافع كبيرا بنفس القدر. لذا، بعد الكثير من الاجترار، يميل المبدعون إلى الوقوع في حالات الاكتئاب الأعمق، لكن هذا يعني أيضاً أنهم أكثر عرضة لتجربة الارتفاعات العالية. بسبب هذا التأثير، يكون عملهم أكثر بروزاً وسلوكهم أكثر وضوحاً وتميزاً.
ويمكن لهذا التحول (من الاكتئاب الشديد وعدم القدرة على فعل شيء، إلى حالة ديناميكية رائعة من الإنتاجية والقدرة على الحياة) أن يضلل الناس بأن يدفعهم إلى الاعتقاد بأن الاكتئاب يغذي الإبداع، ولكن هذا ليس هو الحال حقاً. الإبداع قد يؤدي إلى الاكتئاب، وهي إشارة إلى وجود الكثير من التفكير. وهو، في المقابل، شيء عظيم بالنسبة لتحفيز الإبداع بمجرد القدرة على تخطي حالة الركود الأولي وعودة الحافز للإنتاج الإبداعي.
فإذا وجدت نفسك مكتئباً، فلا تتوقع أن تكون أكثر إبداعاً. لكن، إذا كنت تعاني غالباً من الاكتئاب، فلا بد أنك مبدع بذات القدر!