تصاحب أبو عبدو الحلبي وأبو عبدو الحمصي وتوافقا، وكل غريب للغريب نسيب، وهما سوريّان كما يظهر من كنيتيهما، الأول في الستين وهو حلواني عتيق، والثاني في تخوم السبعين وهو ضابط متقاعد، يقيمان في مدينة روسلس هايم. التقيا أول مرة في مسجد عثمان بن عفان الكبير في أقصى المدينة، في حي "ديكر بوش". استضاف الحمصي صاحبه الحلبي في شقته الضيقة، ولعبا "بارتية" زهر على الشرفة، فردَّ عليه الثاني الصاع صاعين ودعاه إلى بيته الواسع، والجروح قصاص.
ثم اتفقا أن يلعبا على ضفة نهر الماين في "ساحة البغل"، فهو أشرح من ضيق البيوت وآنس، واسم الساحة الرسمي هو ساحة الميناء، ويطلق عليها الحمصي بظرف أهل حمص ذلك الاسم. ليس بغلاً، فالنصب التذكاري هو لحصان على ظهره عامل الميناء المتعب، تحت قبعته، يجرُّ السفن إلى أوتاد حديدية غليظة تشبه حلمة الثدي، فيوثقها حتى تقرّ وتسكن.
وقد جرَّ الحمصي صاحبه الحلبي إلى النصب ليعرف مادة معدنه، واختلفا في أصلها، الأول يقول إنه مصنوع من النحاس، والثاني يقول إنها خليطة معدنية صبّت في قالب. ورأى أحدهما أن يعقلا، ولا يختلفا، فما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، والحياة قصيرة، وقررا أن يلعبا كل يوم عصراً.
فالمشهد جميل على النهر، تبتهل الطيور فيه، وتعجُّ وتثجُّ في العشي والإبكار، إمّا فرحة بيوم جديد وإمّا نادبة يوم سَلخ، أو سعيدة بالليل بعد نهار شاق بآيتي الرحمن، الليل الممحية والنهار المبصرة. والناس يردون إليه بكرة وأصيلا، تنزه كلابها، أو تطعم البط والبجع فتات الطعام. وترد أحياناً سفن عملاقة طويلة، أعظم من التيتانك، من فجاج عميقة، تلقي بجرانها في الميناء، فيترجل منها ركاب كثيرون، زائرون. وقد يخرج قندس في أيام الشمس فينظف مخالبة وأسنانه ويعقمها بنور الشمس، فيسرُّ بخروجه المنتجعون، ويلتقطون له عشرات الصور التذكارية، على مسافة أمان، محاذرين من تعكير صفوه، كأنه ملك جليل، أو ديناصور يوشك على الانقراض. وعلى رمية حجر، عشٌّ كبير لطائري بجع أبيضين، يستطيع فتى أن ينام فيه، نصبت البلدية حوله حائطاً واقياً من واقيات الطرق، الملّونة بالأحمر والأبيض، حتى ينعما بأسرة سعيدة، يقعدان على بيضتين كبيرتين واعدتين، ويتناوبان حضانتهما.
يتبارى الصديقان كلما ضحكت الشمس من سكرة المطر وغشاوة الضباب، ليتابعا معركة البسوس، ويتطاحنان بالحظوظ. يغلب هذا حينا وينتصر ذاك أحياناً، فالحرب سجال. يقترب منهما ألمان فضوليون مستجلين أسرار هذه اللعبة، التي لم يعهدوها في آبائهم الأولين، وكذلك يفعلون لإيمانهم بالخصائص والخصوصيات، وهم قوم يحبّون المتع والرياضات واللهو، فيخرج أبو عبدو الحلبي عِدّته التي اصطحبها، وهي ترمس قهوة وكيس فيه بعض أنواع الحلويات والمكسّرات التي صنعها أو خلطها بنفسه بمقادير، فهو حلواني عتيق، أذاق حلب ويلات السكر وبطش الحلويات، كأنَّ اسم مدينته فيه تصحيف، فهو حلت وليس حلب، فيُفاجَأ المستطلعون الألمان بالكرم، ويمدّون أيديهم خفره وجلة، ويذوقونها مستلذين، وحَسُنت مأكلا.
طلب مرة منه ابنه الطبيب عبدو أن يعدّ له وضيوفه الأطباء والممرضين صينية نابلسية، وذلك شأن غير قليل وتدبير كبير، فوافق، وجاهد فيها شهراً، حتى استورد صينيتين نحاستين من بلاد بعيدة، واستعار موقداً بعيون نارية كثيرة، من أتراك أصدقاء. وحضر الضيوف، وجلسوا ينظرون إليه كيف يبني قواعد المجد وحده، كأنه يعدّ نمرة من نمور السيرك وأعمال الخفّة والسحر.
تقلنس قلنسوة بيضاء، وصبَّ في الصينية شوبا من سمن مذاب، ثم بسط بساطاً من الكنافة في رقعة الصينية النحاسية، ثم غطاه ببساط أبيض من جبنة العكاوي الصائمة المصفاة من الماء حتى ابيضّت الرقعة، تجري من تحتها سواقي النار، ثم مدّ بساطاً من السميد في الصينية الثانية، وزاد الزفير، وأطبق الثانية على الأولى، يذيقها مثاقيل النار، يسعّرها حيناً ويهدهدها أحياناً، بعد ساعتين، وهو يسوم الصينية النحاسية أنواع العذاب والشوق.. فتح القسطنطينية، وأغدق على السبيكة الشهية سيولا من شراب السكر السكران من الحلاوة، ونثر عليها الفستق الحلبي الناعم الأخضر، فصفق الحاضرون. أغمد القطاعة في قطعة مربعة من السبيكة ورفعها بهدوء، مسافة ذراع، فظهرت حبال الجبنة البيضاء من أطرف القطعة الثلاثة كشلال، ثم رقّت مثل أوتار العود من غير ألحان حتى تصرّمت.
وقف الضيوف على الرتل، ينتظرون السكبة، وحمدوا صنيع والد الطبيب عبدو، وأكلوا، فدارت بهم الدنيا سبع دورات، حتى أوشكوا على الرقص طربا.
بات الحلبي بعد نمرة سيرك النابلسية العجيب يدعى إلى الحفلات الألمانية، ضيف شرف، ليؤدي تلك النمرة المذهلة، فهي حلوى للبصر والفم معاً.
يوافق الألمان العابرون بعد إلحاح الحلبي عليهم وقسمه الذي لا يفهمونه بلهجته الحلبية، فيفهمون من الإشارة وهو يومئ إلى فمه وابتسامته السَكْرى بالسُكّر، وجوز الهند ينتثر كنقع الحرب، ويأكلون من ضيافته.
قال الحمصي لصاحبه، وهما يتناوشان بالفوز والخسارات، يسأله إن كان سيعود إلى الوطن بعد مؤتمر
العودة الروسي في دمشق، فيقول: تقصد مؤتمر "تعا ولا تجي"؟
فيبتسم أبو عبد الثاني ويقول إنه هو بذاته.
فيرمي الحمصي الأول زهره ويضحك ساخراً ويقول: إنَّ المتكلمين في المؤتمر كانوا محللين سياسيين وليسوا وزراء، وهم من أكذب الناس، والذي ينطبق عليهم قوله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون". وإنه لا يصدّق الرئيس لو أقسم على الجفر والهفت وطوب الأرض، فكيف يصدق حفنة من الدجالين؟ ثم يسأل صاحبه إن كان سيعود.. والحديث لا يقصد منه الاستفتاء وإنما التسلية والمنادمة، فيقول الثاني إنه رحل عن وطنه قبله بأربعين سنة بعد أن اعتقل ابنه ومات في تدمر وضاع قبره وأثره، فكيف يعود؟ عودته مستحيلة، وإنَّ الجنة أقرب إليه من
سوريا، وقد بثَّ جذوره في
المانيا فأينعت وأثمرت.
غزا الصديقان نضد الألمان الذين ينصبون سرادق للهو والقصف على الضفة في العطل نهاية الأسبوع، وتبقى أياماً منصوبة تحت المظلات، وصارا يجلسان عليها فهي أروح من أرائك البلدية التي تخدم بها سكانها، لأنها تتيح لهما المواجهة، وصارا يلعبان في السرادق، وهي بسالة أن يجترئا على ذلك الاحتلال الغاشم..
يرمي هذا نرده ويرد عليه صاحبه، فإذا أذَّن المؤذن لصلاة العصر من هاتفيهما، صليا جماعة، على وقتها، فيفرشان سجادتيهما متجهين إلى القبلة التي عيّنها أبو عبد الحلبي ببوصلة هواتف الجيب، والتي وافقت تقدير الحمصي من غير جهاز، فهو ضابط قدير وخبير بتقدير الجهات. ثم يمتشق الحلبي من جيبه قارورة زجاجية على هيئة القلم، لا يتجاوز طولها السبابة، ويدهن بمدادها موضعي سجوديهما، ومدادها مسك. يدعو الحلبي دعاء الإقامة مؤتماً بصاحبه ويصليان، فيمرُّ بهما الألمان غير مبالين، فكثير من الألمان يؤدون اليوغا في ربوع الساحة المتطاولة، يعقدونها دوائر وحلقات مثل حلقات الصوفية وقوفاً أو كراديس، فلعلها يوغا جديدة، غير أن يوغا الصاحبين قصيرة، وليست مثل "صلواتهم" التي تطول ساعة او اثنتين. والإمام هو الحمصي، فهو ضابط عتيق، وهما نازحان من بلد العسكر، وأجر المقاتل ليس كأجر القاعد، وكلاً وعد الله الحسنى.
ينتهيان من الصلاة.. تقبَّل الله أبو عبدو... منّا ومنكم صالح الأعمال أبو عبدو.. يعودان إلى ساحة المعركة ويتبارزان، مسربلين بالمرح والرضى ويتخاصمان، ويتطاير الشرر وتتكسر الأرقام على الأرقام.
يحتدُّ الحمصي، ويغضب: أنت تمسك النرد وتغشُّ يا أبو عبدو، فيتهمه الثاني بأنه أيضاً يغشُّ، فهو ينفخ في مكعبي النرد، ويوسوس للحجرين بالتعاويذ والإشارات، ويثخنان بعضمها بالهمزات واللمزات والطرائف إلى أن يحلَّ المساء بالاعتكار ويولي النهار الأدبار.
في اليوم الأخير من مؤتمر "تعا ولا تجي"، سأل الحمصي صاحبه الحلبي إن كان سيعود إلى الديار، وكان قد سأله وعرف جوابه، فهما يتنادمان، فقال: كيف يعود وهو ضابط متقاعد كان محروماً من الصلاة مدة حياته العسكرية، قضى حياته وهو يصلي في السرّ، هو يصلي الآن في الساحات تحت الشمس، وكيف يعود إلى بلد التجديف ولعْنِ الدين والرب والنبي رياضة روحية لدى جنده ومخابراته، ثم قال: إنه سيعود بشرط وحيد.
نقل صاحبه غنائمه التي حازها غير خاسر، وهي مصكوكات من البلاستيك الصلب تشبه الدنانير بلا نقوش، وتساءل وهو يلقي النرد: شرط وحيد؟
فتطوح النرد، ورقص من غير طبول، ثم استقرَّ على أرقام الانتصارات وحظوظ الهزائم.
قال: إنه سيعود مقابل بيضة مسلوقة!
فرمى صاحبه المكعبين ونقل أحجاره السوداء ووزع البيضاء في الميمنة والميسرة، يسدُّ على خصمه الثغور والمنافذ إحكاما للدفع والتحصين، حتى لا ينفذ منها إلى النصر: بس بيضة واحدة! ولماذا مسلوقة؟
قال: البيضة المسلوقة، لا تسيل ولا تميل، موقفها ثابت ومبدئي، المسلوقة محصنّة.
فتابع وصف البيضة، وقال: إنها بيضة أعجب من بقرة بني إسرائيل، فهي بيضة ديك برتبة عميد ركن، الديك في عصمته أربعون دجاجة، وليس له عقب وأفراخ، والبيضة بعشر صفارات، ويشرح: بعشر أمحاح يعني أبو عبدو، وتكون الأمحاح بهذه الألوان:
واحدة قرمزية، والثانية وردية، والثالثة لازوردية، والثالثة فوشية، والرابعة كرزية، والخامسة حمراء قانية، والسادسة خمرية، والسابعة حنطية، والثامنة سمسمية.. وصاحبه يتمرغ في فردوس الألوان وأقواسها من غير ملل.
ويواصل ذكر ألوان لم توجد في كتاب ولا خطرت على لبٍ من الألباب، ثم يقع لهما حدث سعيد، وهو يقع لهم كل يوم، إذ يحطُّ على طاولتهم طائر نورس أبيض، بنبأ يقين، يقين الجوع الذي لا مرية فيه، فيرحب به الحمصي، ويتوقف عن الكفاح ويلقي من يده السلاح، ويقول لأبي عبدو الألماني، وهي كنية الطائر، إنه تأخر عليهم اليوم، وهو طائر أعرج، يثبُ على ساق واحدة ويرفع الثانية. وقد فكر الحلبي في أن يأخذه لابنه الجراح حتى يعالج ساقه ويجبر كسرها، وهو يعطف عليه أكثر من صاحبه فهما متماثلان، فهو يعرج من رصاصة قديمة في حرب تشرين، ما تزال نائمة في فخذه الأيسر، لكنه يؤجل الأمر حتى تستوثق الصحبة.
بسط الحمصي يده بقطعة كبيرة من الخبز المحلّى، لكنَّ النورس ذا المنقار البرتقالي المسوّد في مقدمه، لم يكن وحده هذه المرة، كان قد اصطحب معه وليفته أم عبدو، ظاهرة الوضاءة، بادية الجمال، وجلة، تقدم قدماً وتؤخر أخرى، بخفر العذارى. سبق الحلبي صاحبه إليها يده بقطعة من النمورة، وقال للطائر الضيف: تفضلي أم عبدو.
تقدمت النورسة تمشي مشي السحابة لا ريث ولا عجل، فسبق أبو الحلبي صاحبه وزقّ لقمة في ثغرها الباسم، حتى يفوز بأجرها وثوابها، وصارت في الأيام التالية تسبق وليفها، وتحطّ في منتصف طاولة النرد، طالبة حصتها اليومية من الحلوى وأنفال المعركة.
twitter.com/OmarImaromar