حين داهم مئات من رجال الأمن المدججين بالسلاح سبعين منزلا ومكتبا في النمسا يوم التاسع من نوفمبر الجاري، مما ترك عشرات الأسر في حالة من الذهول والصدمة والشعور بالرعب، فقد كان الافتراض الأولي هو أن هذه العملية الواسعة كانت متعلقة بحادثة المسلح الذي أودى بأربعة وجرح عشرين آخرين في الأسبوع السابق.
لذا، فقد أثار تصريح وزير الداخلية كارل نيهامر الاستغراب حين نفى ذلك تماما، مؤكدا أن هذه العملية والتي تعد الأكبر والأوسع من نوعها في القارة الأوروبية لم يكن لها أي صلة بالمسلح الذي كان معروفا بولائه لتنظيم الدولة. وأضاف الوزير موضحا أن الغارات استهدفت منازل ومكاتب يشتبه بصلتها بحركة حماس و/أو جماعة الإخوان المسلمين، وهو أمر في غاية الغرابة حيث إن الشعب النمساوي بل الشعوب الأوروبية برمتها، كانت تتطلع لتصريح حول حادثة فيينا الإرهابية الدموية آنفة الذكر، بينما انشغلت قوات الأمن النمساوية بتنفيذ مداهمات ذات طابع سياسي بامتياز.
والذي يثير مزيدا من الاستغراب هو أن تصريحات سلطات الأمن التي علقت على الحادثة الإرهابية أشارت إلى أن الجاني شاب نمساوي من أصول مقدونية كان قيد مراقبة الأجهزة النمساوية، بل وفصلت بأنه سافر مؤخرا إلى ألمانيا والتقى برفاق له هناك، يخضعون هم الآخرين لمراقبة السلطات الأمنية الألمانية، ثم عاد وتمكن من تنفيذ هجمته تلك. فقد كان متوقعا قيام الحكومة النمساوية بتفسير ما جرى لشعبها وبتوضيح دورها وتقصيرها في منع الجاني من القيام بالعملية الإرهابية، لا أن تسمع بعملية ترويع ذات طابع سياسي بحت ضد عشرات من المنظمات والمؤسسات والشخصيات النمساوية التي تعمل وفقا للقانون النمساوي وتخضع لأنظمة وأحكام البلد بكامل الشفافية والوضوح.
وزيادة على ما ذكر، فطبيعة المداهمات التي جرت في ساعات الفجر المظلمة وتضمنت كسر أبوب المنازل وترويع الأسر والأطفال ومن ثم القيام بعمليات تفتيش دقيقة للممتلكات الشخصية ومصادرة الأجهزة الإلكترونية والأموال التي بحوزة هؤلاء المواطنين، دونما تفسير لهم أو توضيح بل دونما توجيه لتهم للثلاثين الذين احتجزتهم إبان تلك المداهمات، يستدعي للذاكرة ما يحصل باستمرار في البلاد المحكومة من قبل أنظمة قمعية وشمولية كبلاد العالم الثالث.
ومن بين من تعرض باب منزلهم للتحطيم من قبل عدد من الجنود المدججين بالسلاح فجر ذلك اليوم، أرملة نمساوية سبعينية من أصول لبنانية تعيش بمفردها كان زوجها الراحل الفلسطيني الأصل يعمل مع منظمة الأمم المتحدة، حيث قامت القوات المداهمة بالتحقيق معها لعدد من الساعات وتركها في حالة من الصدمة والذهول، لا تزال حتى الآن تعاني من آثارهما.
ويبقى التساؤل عما إذا كانت هذه المداهمات والتصريحات التي صدرت بعدها عن المستشار النمساوي سباستيان كرز، بالإضافة إلى الأحداث التي شهدتها فرنسا في الأسابيع الماضية، تنُمان عن حالة تراجع ممنهجة في مستويات الحرية والديمقراطية على الساحة الأوروبية مترافقة مع صعود مستويات الشعبوية والتوجهات اليمينية واليمينية المتطرفة في أنحاء القارة الأوروبية. لعلنا بحاجة لبعض الوقت كي نحسم في هذا الأمر، ولكنه مشهد يبعث على القلق الشديد أيا كان الجواب.
أسئلة دونما جواب
حين أقدمت السلطات النمساوية على تنفيذ هذه المداهمات الواسعة ضد مواطنين نمساويين في ذات الوقت الذي كان الشارع النمساوي يطالب بأجوبة واضحة حول ما يتعلق بالهجمة الإرهابية بوازع ركيك أن هؤلاء يمثلون تهديدا لمنظومة القيم النمساوية، فهي تثير أسئلة في غاية الخطورة.
فقد يظن البعض أن الحكومة أرادت صرف الأنظار عن فشلها المتوالي في منع الهجمة الإرهابية وذلك باصطناع أزمة بهذا الحجم، بينما آخرون قد يذهبون إلى أن النمسا قررت الرضوخ للإغراءات الاقتصادية والمالية التي تقدمها أنظمة أبوظبي والرياض مقابل التماهي مع سياساتها الرافضة لأية قوى قد تشكل تهديدا لقبضتها على الحكم، وذلك من خلال استهداف من يتعاطف مع تلك القوى الديمقراطية من المنظمات والشخصيات النمساوية.
كما أن هنالك تفسيرا ثالثا، وهو ما يتعلق بالتزام الحكومة النمساوية ببنود ما سمي بصقفة القرن ومشروع الرئيس الخاسر للانتخابات الأمريكية دونالد ترامب، وبالأخص ما يتعلق بإزالة كافة المعوقات لتنفيذ تلك البنود ولو قسرا، ومنها العديد من منظمات المجتمع المدني العاملة لفلسطين وفي مجالات الدفاع عن الحقوق الفلسطينية في عدد من دول أوروبا والغرب.
ومما يدعم هذا الاحتمال، هو أن العامل المشترك بين سائر من تمت مداهمة منازلهم ومكاتبهم، هو أنهم يعملون في مجال العمل الفلسطيني بشكل أو بآخر أو أنهم فلسطينيون. ومن الواضح أن ظاهرة التضييق على من يدعم الحق الفلسطيني تزداد كلما زاد المنحى اليميني للحكومات الأوروبية وكلما تبنت تلك الحكومات آراء ومواقف يمينية متطرفة.
قبضة من حديد
ومن العبارات التي باتت رائجة ضمن أروقة الحكومات الأوروبية والإعلام أن كل من يعبر عن تأييده للحقوق الفلسطينية أو لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين أو لرفع الضيم عن الأيتام الفلسطينيين، فإنه حتما سيكون من أنصار حركة المقاومة الفلسطينية حماس أو لجماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي يستحق أن يكون مشتبها به، وهو توجه خطير للغاية ليس لأنه ينتهك الحريات والحقوق الأساسية التي يتمتع بها سائر المواطنين في التعبير والرأي فحسب، بل لأنه يفتح الباب لاستغلال من يشاء من المتطرفين من كافة المناحي.
وبما أن أحدا ممن دوهم منزله أو مكتبه لم يرتكب جرما قط، فما هو تفسير هذا الإجراء الصارم بحق مؤسسات وأفراد يمارسون أعمالا خيرية أو إغاثية أو إنسانية من شتى الأصناف؟ لم تم إغلاق حسابات العديد منهم، في وقت تعاني فيه جميع الأسر من ضائقة مالية شديدة جراء الأزمة الاقتصادية الماحقة التي سببتها جائحة الكورونا وما ترتب عليها من إجراءات إغلاق وسواها؟
والواقع أن أكبر تهديد لاستقرار المجتمعات الأوروبية ولازدهارها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، هو أن يتصرف سياسيوها على أنهم منظرون مفكرون أو نشطاء أو ممثلو مبيعات.
وبينما تطالَب السلطات النمساوية برد الاعتبار لكل من تعرض لأذى جراء تلك المداهمات ولتعويض الأسر عما لحق بها من ضرر مادي ومعنوي ونفسي وإعادة مقتنياتها وحاجاتها الشخصية وإعادة فتح الحسابات البنكية التي تم إغلاقها، فمن المهم ألا يتكرر حصول مثل هذا الأمر في أي مكان، لا في النمسا ولا في أية دولة أوروبية أخرى.
فلأجل حصول استقرار حقيقي ينبغي مواجهة التطرف بكافة أشكاله وأنواعه بكل الطرق الممكنة وعدم حرف البوصلة عن الصراع المشترك ضد الفكر المتطرف لأمثال داعش أو الأحزاب النازية الجديدة، نحو أطراف هي في حقيقتها لا تمارس العنف بل تقوم بعملها الإنساني والخيري والتوعوي بشكل واضح مكشوف وتحت طائلة القانون. وإن حصل ذلك، فهو الكفيل بشق وحدة المجتمعات الأوروبية وزرع القلاقل وصناعة أجواء متوترة، مما يمثل فوزا ساحقا للمتطرفين والإرهابيين، كما أن التراجع نحو خانة الشمولية والفاشية والاستبداد والديكتاتورية بحق مواطني أوروبا، سيمثل أكبر هزيمة للقارة العجوز.
رئيس ومؤسس مؤسسة قرطبة