بانتظار جلسة مجلس النواب ظهر الجمعة بعد أن طار التدقيق الجنائي المحاسبي مع شركة فاريز آند مارسال، وأصبح الخيار المتاح هو عبر التدقيق في حسابات البنك المركزي
اللبناني من قبل لجان مخصصة من البنك المركزي الفرنسي.
فقد وصلت الأمور إلى خواتيمها البالغة الخطورة مع عقد المجلس المركزي لمصرف لبنان اجتماعه الأسبوعي منذ يومين في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، حيث شارفت الاحتياطيات من العملات الأجنبية وغيرها في البنك المركزي اللبناني على بلوغ النقطة الحرجة، أي عدم القدرة على مواصلة دعم السلع الأساسية (قمع- دواء- محروقات)، وتاليا الوصول إلى الاحتياطي الإلزامي، حيث القانون يلزم بعدم المس بهذه المبالغ المودعة، مع معرفتنا بأن مصرف لبنان تجاوز حدوده في كثير من المعاملات من الهندسات المالية عبر الانكشاف غير المسبوق تجاه الدولة المفلسة، والعبث في أموال المودعين، مضافا إليها عدم إقرار كابيتال كونترول ينظم عمليات السحب والإيداع. لقد أصبح المودعون كالمتسولين على أبواب
المصارف في مشهد يدمي المُقل على كبار السن في رحلة بحثهم عن ثمن دواء واستشفاء، وللأسف هل هناك من يشعر؟!!
المعلومات مقلقة
وتشير المعلومات إلى أن البنك المركزي قد يخفّض الاحتياطي الإلزامي بالعملات الأجنبية التي لديه والتي تعود للمودعين، من 15 في المائة إلى حدود 10 في المائة، وفي ذلك خطوة لمواصلة سياسة الدعم التي رسم حولها علامات استفهام لا تنتهي، وتاليا مزيد من سياسات الإمعان في ضرب صورة البلاد والمصارف وسرقة الودائع أمام أعين أصحابها، في صورة تحاكي النهايات التراجيدية مع تشويق الحلقات لانهيار الدولة شيئا فشيئا حتى بلوغ القاع الذي ربما قد نكون وصلنا إليه أو نكاد.
فنحن قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكبير الذي سيعيد الناس من صنوف مختلفة إلى الشارع مع تعدد الثورات: ثورة للجياع وثورة للعاطلين عن العمل وثورة للمنهوبين والمسروقين والعاجزين، وعلى رأسهم المودعون في المصارف الذين ما عادوا يمتلكون سوى الدعاء في بلاد تطويع القانون المالي والمحاسبي وحتى الجنائي للأهواء والمصالح الطائفية والسياسية، أو بحسب مشيئة المتحكمين والدول النافذة أو ربما توصيات أنصاف الآلهة وما أكثرهم.
كيف يؤثر الاحتياطي النقدي على القطاع المصرفي؟
عندما تقوم البنوك بخفض قيمة الاحتياطي النقدي لديها، سينعكس ذلك بالزيادة على الأموال في النظام المصرفي، وبالتالي القدرة على إقراض الأفراد والشركات، حيث ستزداد الأموال المستثمرة من قبل البنوك وعندها تكون هذه السياسة توسّعية.. والعكس صحيح، أي عند زيادة الاحتياطيات النقدية يحدث انكماش اقتصادي، حيث يحد ذلك من كميّات الأموال في النظام المصرفي، وبالتالي التأثير على القروض المقدمة للأفراد والشركات وتكون السياسة انكماشية. فما بالك لبنانيا، حيث الانكماش القاتل ممزوجا بتضخم مفرط بلغ أرقاما فلكية وقياسية بما يقارب 365 في المئة، بحسب إحصائيات البرفيسور هانكس الصادرة في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، أي في المرتبة الثانية بعد فنزويلا. وبالتأكيد باتت زيمبابوي التي لها كل الاحترام في وضع أحسن من الواقع اللبناني المزري، وربما الآتي أكثر سوءا للأسف، مع أسعار دولار لا ترحم ولا تبقي ولا تذر، وسياسيين كأنهم خارج المكان والمحيط، حيث ما زالت روائح نترات الأمونيوم المنتشرة من انفجار بيروتشيما في أنف كل اللبنانيين؛ إلا أموات الضمير الذين لم يعرفوا الفاعل حتى اليوم!
لقد بلغت الحالة اللبنانية المستعصية حدود التفكير في استخدام الاحتياطي القانوني في تمويل العمليات التجارية.. وفي ذلكم جريمة موصوفة بكل المقاييس الاقتصادية والمصرفية والاجتماعية وحتى الإنسانية.. فيا أصحاب الحل والعقد، ألا يكفي اللبنانيين ما بهم من فيروس كورونا إلى شبه الحجز على الودائع، وصولا إلى الشلل الحكومي تأليفا والذي لا يبدو له حل في الأفق، حيث صراعات المنطقة تفعل فعلها، مضافا إليها الدور الأمريكي المريب عبر السفيرة الناشطة جدا دورثي شيا، مع الشخصنة القاتلة بين الأقطاب المعنيين في لعبة الملل السخيفة حيث تسقط المسؤولية الوطنية عن كل اللاعبين.
لقد قال حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة في أكثر من حديث صحفي، إن المصرف المركزي لا يمكنه استخدام احتياطه الإلزامي لتمويل التجارة بمجرد بلوغه الحد الأدنى، وتابع أن البنك سينهي الدعم لمنع نزول الاحتياطي عن 17.5 مليار دولار. ولكن هل يبقى الكلام كلاما؟ إننا في زمن التجاوزات في كل شيء، زمن فيه أرقام مالية الدولة وجهة نظر والدستور وجهة نظر، حتى الاعتداء على أموال الناس بات وجهة نظر للأسف.
الفقراء يدعمون الدولة؟ وهل يجوز المس بالودائع؟
إن المعضلة تكمن في سياسة الدعم الخاطئة المتّبعة، فالقسم الأكبر من الدعم لا تستفيد منه الفئات الفقيرة والمحتاجة، ومن هنا فإنّ الخطر سيتفاقم إذا ما كنا سنستمر في تمويل السياسة الخاطئة نفسها التي يتبيّن في تنفيذها أن نسبة 25 في المئة من أموال الدعم فقط تذهب إلى الفئات الفقيرة أو المحتاجة، والقسم الأكبر يذهب إما إلى الخارج حيث وصلت علبة الجبنة المدعومة من الدولة اللبنانية إلى رفوف السوبر ماركت في دولة الكويت الشقيقة، والقسم المتبقي يذهب إلى التجار والوسطاء والمهربين.
إن المدافعين عن نظرية جواز استعمال مصرف لبنان للأموال المودعة لديه إلزامياً من قِبل المصارف، يستندون إلى حجتين أساسيتين هما أنه لا وجود لنص مانع صريح في القانون يقصي أو يستبعد جواز استعمال مصرف لبنان لهذه الأموال كحجة أولى.. ولكن أين المسؤولية الأخلاقية تجاه المودعين من لبنانيين وعرب، حيث جاءت الإشارات الصادرة عن الرئاسة السورية صراحة للسؤال عن أموال السوريين في المصارف اللبنانية؟
أما الحجة الثانية فإن نص التعميم الأساسي رقم 86 لم يصنّف المبالغ المودعة على أنّها احتياطيات إلزامية بل اعتبرها توظيفات إلزامية، وذلك خلافاً لنص تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 84 الذي فرض في مادته الثالثة على المصارف تكوين احتياطي إلزامي نقدي لدى مصرف لبنان على مجموع الالتزامات الصافية بالليرة اللبنانية، وتاليا خضوعها للاحتياطي الإلزامي.
لذلك، لا بدّ من الرجوع إلى أحكام قانون النقد والتسليف الذي هو أقوى من كل التعاميم، وهو الأساس ويستمدّ منه مصرف لبنان صلاحياته باتخاذ التدابير الملائمة، ويضع التنظيمات الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها والحفاظ على سيولتها وملاءمتها المطلوبة محليا ودوليا.
لقد منحت المادة 76 من قانون النقد والتسليف لمصرف لبنان صلاحية اتخاذ التدابير التي يراها ملائمة، في سبيل الإبقاء على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف من جهة، وبين مهمته العامة المحدّدة في المادة 70 بالمحافظة على سلامة النقد وسلامة أوضاع النظام المصرفي والمالي. من هنا يبرز السؤال الكبير: مسؤولية من وصول الحال إلى ما هو عليه في مصرف لبنان وغيره من وزارات الهدر، ومجالس بموازنات مستقلة وفجوة مالية هائلة وصلت إلى ما يفوق 61 مليار دولار؟!
القادم مخيف
إن الخطورة تكمن في عدم القدرة على الدعم للسلع الضرورية في القادم من الأيام ما يعني عمليا أن ربطة الخبز قد تبلغ 10 آلاف ليرة لبنانية، وعلبة البندول (مسكن ألم) 20 ألف ليرة لبنانية، وتنكة البنزين 65 ألف ليرة، وتنكة المازوت 40 ألف ليرة.. في زمن الشتاء القارس..!! فمن له القدرة على احتمال ذلك مع تضاؤل القدرة الشرائية للبنانيين، وانخساف الرواتب إلى 20 في المئة من القيمة الحقيقية، حيث كل السلع مستوردة بالدولار، والدولار يحلق عاليا آكلا 80 في المئة من قيمة الليرة؟ وفي ذلك وجع يضرب كل البيوت ويعمق الفجوة، فالناس في واد وأهل الحكم في واد آخر!
إننا نسأل: إن لم نستطع الوصول إلى حكومة ترضي الناس والأسرة الدولية وصندوق النقد وهو القائم حاليا، من أين ستأتي الدولارات الجديدة (فريش)؟ وتاليا هل ترتفع فتاوى جديدة للمس بأموال الناس مجددا عبر ضرب الاحتياطيات الإلزامية؟
برأيي لا بد من الذهاب إلى تحقيقات شفافة في كل المالية اللبنانية، وهو أمر واجب مهما تطلب من تعديلات قانونية مالية حتى يبقى للمودعين أمل قبل أن تنفجر الساحات بالناس الموجوعة. أما بالنسبة للاحتياطيات فإن ما هو غير جائز قانوناً خارج وقت
الأزمات يبقى غير جائز خلالها، وتاليا وبالصوت العالي: ارفعوا أيديكم عن أموال المودعين، وكفى لعبا بمصائر اللبنانيين لأن المس بالاحتياطيات الإلزامية يشكل بداية النهاية للبلاد سياسيا واقتصاديا وماليا.