تبدو التغييرات التي يشهدها العالم مرتبطة أكثر هذه المرّة باستجابة الدول من عدمها للتحدّي الخاصّ بالوباء والأزمة الاقتصادية الكبرى التي تسبَّبَ بها. أوّل الخاسرين في هذه المعركة، هو دونالد ترامب، ليس كشخص أو حتى كظاهرة، بل بما يمثّله من نهج في الاقتصاد، وحتى في السياسة. الحمائية الاقتصادية التي يعبّر عنها، تلقّت ضربة كبرى مع تراجع المؤشّرات الاقتصادية في الولايات المتحدة، على ضوء التفشّي الكبير للفيروس، وطريقة تعاطي الإدارة الحالية معه. لم ينتبه الرجل إلى المتغيّر الذي حمله الوباء معه، حيث الردّ على الانتشار الكبير للفيروس لا يكون هذه المرّة خارج إطار التنسيق مع الدول الرأسمالية الأخرى التي أُصيبت بالجائحة، لأنّ الحمائية هنا لا تنفع، كما في الاقتصاد، وقد تأتي بنتائج عكسية، كما تبيَّن لاحقاً من نتائج الانتخابات.
السياق، هنا، مختلف عن الأزمة التي أتت بترامب إلى الرئاسة لتنفيذ برنامجه الحمائي، وإخراج الولايات المتحدة تباعاً من مؤسّسات العولمة. حينها، كانت الاستراتيجية مناسبة للظرف التاريخي الذي يشهد انتقالاً من مرحلة رأسمالية إلى أخرى، إلى درجة سمحت للأدوات السياسية التي استُخدمت في تقويض الأطر المتعدّدة الأطراف الخاصّة بالعولمة، ليس فقط باستعادة الثروة إلى الداخل الأميركي، بل أيضاً باستثمارها في خلق وظائف وفرص عمل، استفادت منها شرائح واسعة من الأميركيين، عبر الإصلاحات الضريبية التي أقرّها الكونغرس لمصلحة ترامب. انحسار هذه المؤشّرات والمكاسب كلّها على ضوء إجراءات التقييد الخاصّة بالوباء، وما تبعها من ركود اقتصادي عميق، انعكس فوراً، ليس فقط على احتمالات فوز الرجل في ولاية رئاسية ثانية، بل كذلك على الحمائية، كفلسفة اقتصادية لجعل الثروة تُنتَج في الداخل، عبر توسيع نطاق الإنتاج السلعي المشغّل لليد العاملة، إلى الحدود القصوى.
خسارة جولة الوباء
الردّ على الوباء، الذي قادته الصين بالتنسيق مع منظّمة الصحة العالمية، بدا كمحاولة أوّلية لتجاوز آثار الحمائية الاقتصادية. النموذج الصيني في الاحتواء تحوَّل، مع بداية تقويض الوباء للنمو الاقتصادي العالمي، إلى نموذج دولي، ابتداءً من قاعدة البيانات التي استُخدمت في تعقُّب المصابين المحتَملين، مروراً بالإغلاق التام للاقتصاد لمعاودة إطلاقه بسرعة لاحقاً، ووصولاً إلى إطلاق السباق مع الاقتصادات الرأسمالية الأخرى (وخصوصاً الولايات المتحدة وروسيا) حول اختبار اللقاح، كمخرج ممكن من الجائحة وآثارها الصحّية والاقتصادية المدمّرة. هذا النموذج لم يُتّبع في الولايات المتحدة، وتمّ تأخير العمل به، حتى بعد رضوخ الإدارة لنصائح فريق الاستشاريين الطبّي الذي شكّلته للردّ على انتشار الوباء هناك.
لم يكن سهلاً على ترامب تبنّي طريقة في العمل تعيد الاعتبار إلى مؤسّسات العولمة، ولو جزئياً، وفي إطار يقتصر على الاستجابة العالمية للتحدّيات والمخاطر التي يطرحها الوباء. ومن هنا، كان انتقاده اللاذع لمنظمة الصحّة العالمية، واتهامها بتنفيذ أجندة صينية، وصولاً إلى إيقاف الحصّة الأميركية من تمويلها. الشعور بالمباغَتة، هو ما ميَّز الأداء الأميركي في هذه المرحلة، على اعتبار أنّ الحمائية التي سرّعت من وتيرة النمو الاقتصادي كانت قد استقرّت كنهج للاستجابة الأميركية لمعظم التحدّيات العالمية، بعد سنوات من إزالة العوائق أمامها، في الداخل والخارج. حصول العكس مع الوباء كان مؤشّراً أوليّاً، حتى قبل الانتخابات، على خسارة ترامب، ليس لهذه الجولة فحسب، بل لجلّ ما راكمه على الصعيد الدولي منذ مجيئه إلى الإدارة قبل سنوات أربع. تحدّيه لإجراءات الإغلاق التي كان يفرضها حكّام الولايات الديمقراطيون، وتفضيله بدلاً من ذلك فتح الاقتصاد أتَيا كتعويض عن فشله في فرض الوجهة التي يتبنّاها للتعامل مع الوباء، على خصومه السياسيين. الانقسام الشديد حول هذه الوجهة، جعَلَ الولايات المتحدة تبدو في موقف ضعيف إزاء الرأسماليات الأخرى التي تجاوزتها في إدارتها لأزمة الوباء.
وحتى مع الإنجاز الذي تحقَّقَ، لاحقاً، بالوصول إلى لقاح فعّال ومضمون على مستوى عالمي، فإنّ تداعيات الأزمة ستستمرّ هناك، وخصوصاً مع التعقيد الخاصّ بإجراءات الانتقال السياسي، وبخسارة كلّ الفوائض التي تحقّقت للاقتصاد مع الترامبية السياسية، والتي يَصعُب على الديمقراطيين استعادتها في ظلّ كلّ هذا التقويض الذي تعرّض له الاقتصاد العالمي مع الوباء.
صعود سوق اللقاحات
ما يميّز هذه المرحلة من إدارة أزمة الوباء، بعيداً عن الانقسام الأميركي تجاهها، هو التنافس المحموم على إنتاج اللقاحات. فبعد احتواء أثَر الوباء على الاقتصادات الرأسمالية من خلال التفاوت في فرض إجراءات الإقفال بحسب النموذج الاقتصادي لكلّ دولة، أتت مرحلة الاحتواء النهائي، عبر تسخير عملية الإنتاج نفسها لمصلحة تعويض ما فقدته هذه الدول من الناتج الإجمالي العالمي. الخسارة الحاصلة في قطاعات الخدمات والسياحة والنقل، كنتيجة لتقييد حركة التجارة الدولية، سيتمّ التعويض عنها، على الأرجح، في القطاع الصحّي الذي سبق وتحوّل مع الإجراءات الاحترازية الخاصّة بالوباء إلى مصدر جديد لإنتاج القيمة على مستوى العالم. الاستثمار في إنتاج اللقاحات بهذا المعنى، هو بمثابة استكمال للانزياحات التي تسبَّب بها الوباء لعملية الإنتاج، والتي خرجت بسببها قطاعات النقل والسياحة والخدمات جزئياً من هذه العملية، لمصلحة المنتجات الصحّية الخاصّة بالوقاية من الوباء من كمّامات وأجهزة تنفّس ومواد تعقيم وسواها، وصولاً إلى اللقاح نفسه. نشوء صناعة كاملة بهذه الطريقة، خلال أقلّ من عام، سيكون له تأثير لاحقاً على بنية السوق، لجهة طبيعة تركّز الرساميل ودينامية العرض والطلب نفسها، حيث يبدو مستقبل الصناعات التي تضرّرت من الجائحة قاتماً، مع تنامي عمليات الإفلاس والإقفال والدمج وإلغاء الوظائف وتسريح العمّال. وهذا كله لمصلحة نشاط صناعي لم يستقرّ بعد، ولم تتّضح، بالإضافة إلى ذلك، طبيعة السوق التي يورِّد إليها منتجاته الجديدة، وما إذا كانت ستنحسر بانحسار الجائحة، أم ستستمرّ لسنوات مع نصائح منظمة الصحة العالمية بالتكيّف مع الوباء على المدى البعيد، وبالتالي تكون بديلاً عن الصناعات التي «اندثرت» مع الجائحة، أو تكاد.
خاتمة
السباق لا يزال في مراحله الأولى، مع استمرار الأثَر الاقتصادي للوباء، على شكل موجات انكماش وركود متلاحقة، وبالتالي يصعب توقُّع نتيجته قبل الانتهاء من احتواء أضرار الجائحة وحصرها، على الصعيدين الصحّي والاقتصادي. على أنه يشهد تنافساً شديداً بين الدول الكبرى (أميركا، الصين، روسيا وألمانيا)، نظراً إلى ما تمثّله سرعة إنتاجه من مكاسب، سواء على صعيد الحفاظ على الأسبقية في قيادة عملية الإنتاج والتراكم بالنسبة إلى اقتصادات كبرى مثل الولايات المتحدة والصين وألمانيا، أو لجهة الموقع الجيوسياسي نفسه الذي سيتعزّز أكثر بالحصول على اللقاح وتسويقه، لمصلحة هذه الدولة أو تلك. وهو ما استفادت منه الولايات المتحدة بعد إعلان شركتَي «فايزر» و«بايونتيك» عن التوصّل إلى لقاح مشترك، لترميم صورتها التي تضرّرت كثيراً من المقاربة الترامبية للجائحة. ويُرجَّح أن تنحسر هذه المقاربة تماماً مع اشتداد المنافسة حول إنتاج اللقاح، ليس بسبب خسارة ترامب لمصلحة الديمقراطيين، بل لأنّه سباق يتعارض مع الحمائية، بخلاف غيره من الصراعات التجارية التي فاز فيها الرجل. مع الحمائية، تُنتَج الثروة في الداخل ولمصلحة الطبقة العاملة المحلّية أو الاقتصاد الذي يعاني من عجز تجاري تجاه الخارج، بينما شرط الإنتاج الحالي الخاصّ بالوباء هو العكس تماماً، أي التقيُّد المطلق بالمعايير التي تضعها منظمة الصحّة العالمية، بالتنسيق مع الدول التي قادت منذ البداية جهود التصدّي للوباء على نطاق عالمي، وعلى رأسها الصين. وبهذا المعنى، فهو سباق أو نشاط صناعي - تجاري من أجل إعادة الاعتبار إلى مؤسّسات العولمة ومعاييرها التي تولي التبادل التجاري بين الدول أهمية مطلقة، وخصوصاً إذا كان في إطار تعدّدي، يلتزم بمعايير منظّمة التجارة العالمية والشراكات التجارية والصناعية المتعدّدة الأطراف. خسارة ترامب، المناوئ لكلِّ هذه الأطر، هي هنا بالتحديد، أكثر منها في الهزيمة الانتخابية التي كانت ستحصل، بمعزل عن إسهام الجائحة فيها من عدمه.