أعاد السجال الدائر بين قيادات حركة "النهضة" التونسية حول مستقبل التداول على المناصب القيادية في إدارة شأن الحركة استعدادا لمؤتمرهم 11، إلى الواجهة مسألة التناوب على المناصب القيادية لدى التنظيمات الإسلامية بشكل عام.
والحقيقة أن هذا السجال المثار في تونس هذه الأيام، ليس هو الأول من نوعه، لا في تونس ولا في باقي التنظيمات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية.. لكن الجديد في هذا الملف أنه يأتي بعد نحو عقد من الزمن من اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتقال الإسلام السياسي من المعارضة إلى الحكم، ومن السرية إلى العلن..
وعلى الرغم من أن عددا من الحركات الإسلامية تعاملت بسلاسة مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية كما هو الحال في مصر والمغرب وموريتانيا وفلسطين مثلا، إلا أن هذا التداول لم يسلم من خدوش سياسية وأحيانا شخصية طبعت تاريخ الإسلام السياسي الحديث..
"عربي21"، تسأل: كيف تعاطى الإسلاميون مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية في تنظيماتهم؟
يواصل الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار في الجزء الثاني والأخير عرضه لتجربة إسلاميي الجزائر في التعاطي مع تحدي التداول على المناصب القيادية..
"اعتقد ولا تنتقد"
التداول على المناصب القيادية بالنسبة للقيادي السابق في حركة عزم الجزائرية فيصل عثمان، هي قضية تضبطها التشريعات والقوانين الداخلية، وتكرّسها التنشئة والتكوين الذي ينبغي أن تنتهجه مختلف التنظيمات السياسية سواء كانت إسلامية أو غيرها، لكن هذه التنشئة غائبة لدى هؤلاء وغيرهم.
ويعتقد فيصل عثمان في حديثه لـ "عربي21"، أن الحركات الإسلامية تربّي أفرادها وفق عقلية الشيخ والمريد، الشيخ هو القائد ورئيس الحزب ومجلس الشورى والآمر الناهي، وهو من ينظّر ويقرّر والبقية أتباع ومريدون لا يجوز لهم توجيه النّقد للشيخ، ومن يخرج رأسه يُوبّخ ويتلقّى شتّى أنواع التقريع من طرف زملائه ومسؤوليه قبل الشيخ نفسه. ذلك أن عقلية "اعتقدْ ولا تنتقدْ" راسخة لدى الحركات والأحزاب الإسلامية، وهي معضلة فكرية وبنيوية لا يبدو أن هناك حلّ لها مادام التجديد والإبداع غائبا عن العقول السياسية في العالم العربي والجزائر خاصة.
ويتساءل فيصل عثمان الذي انسحب من حركة عزم قبل أسابيع فقط، هل يعقل أن تجد رؤساء أحزاب مازالوا يتمسّحون باسم الشيخ محفوظ نحناح إلى اليوم وهم أنداد متشاكسون؟ كيف لرؤساء أحزاب يفترض بهم أن يتصرّفوا كقادة ويعدّون قادة من بعدهم أن يتصرّفوا مثل مريدين فقدوا شيخهم ولازالوا عاجزين عن تجاوز ألم الفقد! وأشار إلى أن الحال نفسه ينطبق على باقي الحركات والأحزاب الإسلامية.
الصراع على الزعامة ـ يضيف فيصل عثمان ـ موجود في معظم التنظيمات باختلاف أيديولوجياتها وانتماءاتها، وأسبابه متعلّقة بخصال الفرد الجزائري ذاتها لكنّها لدى التيّار الإسلامي أكبر، مشيرا "أنا لا أعترف بهذه التسمية أصلا، من يمارس السياسة عليه أن يركّز على الإبداع في الفعل السياسي تنظيرا وتطويرا وسلوكاً دون التشبّث بهذه التوصيفات، فما معنى أن يكون إسلامي في مجتمع مسلم؟". فالسياسة هي نفسها لدى المسلم والنصراني والبوذي، إدارة الشأن العام تتطلّب بناء تصوّرات ومشاريع ناضجة دون الحاجة إلى المزايدات والتوصيفات التي لا طائل من ورائها.
ويضيف: كل هذا لا علاقة له بالصراع لدى هذا التيار، الصراع سببه حزازات نفسية وتنافس مرضي وخلاف في التوجهات السياسية لدى المتصارعين الذين تندر لديهم الرؤية الواضحة والمشروع المتكامل فيتسرّعون في محاولة التموقع، ومن هنا تتضارب المصالح وينفرط العقد لأنّ ما جمعهم في البداية هو خطاب عاطفي وأحلام وردية لا مشروعاً متّفقا على معالمه واستراتيجياته مضبوطاً بنصوص وقوانين صارمة يستحيل تجاوزها.
وحول ما إذا كان من الممكن أن تنتهي مثل هذه الممارسات، يخلص فيصل عثمان إلى أن ما ينبغي أن ينتهي هو الذهنيات البالية وأصحابها، المنطلقات الخاطئة، والتصورّات الهشّة، والخطابات العاطفية، حينها تتقهقر الصراعات الضيقة ويصبح الصراع من أجل التوجهات السياسية الكبرى. وعندما يخرج الإسلاميون من عباءة الدعاة ويتّجهون صوب الفعل السياسي والنضال الحزبي بمفاهيمه الصحيحة حينذاك تتضح طرقهم وتقلّ خلافاتهم وتندثر صراعاتهم الوهمية.
شروط تحديد الأهلية والكفاءة للقيادة
أما الكاتب الجزائري سيف الإسلام صيقع، صاحب كتاب (حراك بلا إيديولوجيا) فيعتقد أن الإسلاميين لم يحسموا أمر التداول على المناصب القيادية، وهذا ظاهر في عدم الاتفاق على شروط تحديد الأهلية والكفاءة، وهي في حالة حزب إسلامي لابد لها أن تراعي أمرين: كفاءة في العلم الشرعي (عقيدة، أصول فقه.. الخ) وكفاءة فيما يخص الجانب السياسي وهذا لابد يتضمن كفاءة في الاجتماع والفكر الإنساني عموما، وغالبا ما يكون المنصب القيادي خلوا من الأمرين، والإخوان مثال جيد على ذلك، ابتداء من حسن البنا مرورا بالسيد قطب وصولا لغيرهم. فالإسلاميون في نظري ارتجاليون لا يملكون تنظيرا مرجعيا حقيقيا غير أصول كلية غير منضبطة التفاصيل.
ومع ذلك يؤكد الكاتب سيف الإسلام صيقع لـ "عربي21"، أن الصراع على السلطة عند الإسلاميين لا يختلف عن غيره من حيث الجوهر، فقط يمكن أن يكتسي كساء شرعيا أو بلغة قريبة من ذلك، لغة التفسيق والتبديع، وأنصح بقراءة كتاب "ماذا قيل يوما في أفغانستان" ليوسف سمرين، الذي يظهر نوعا من هذا الصراع داخل الحركات الجهادية وغيرها.
ولا يستبعد سيف الإسلام صيقع إمكانية انتهاء الظاهرة هذه عبر وجود تنظير شامل هو الذي يكون أساس الحركة الإسلامية، تنظير شامل يحدد برامج مؤسساتية (الجامعة، البرلمان، الاقتصاد... الخ) ثم الصراع على السلطة يكون عبر شروط تتعلق بهذه البرامج، حيث يكون المنصب القيادي له أهلية في العلم الشرعي والفكر الإنساني، وخبرة وممارسة. وقد حاولت في كتابي (حراك بلا أيديولوجيا) أن أشير إلى هذا الأمر وأحدد معالمه.
صراع الشرعيات في سباق الزعامة
من جانبه يؤكد أسامة بوضياف / دراسات أمنية واستراتيجية أن الإسلاميين في الجزائر خاصة لم يحسموا ليوم الناس هذا قضية التداول على المناصب القيادية.. بدليل أنهم لم يستطيعوا حتى أن يشكلّوا جبهة أو مبادرة سياسية غير حزبية في خضم الحراك الشعبي ولا زلنا نسعى جاهدين لمحاولة جمعهم، مشسرا إلى أن "ما يحزُّ في النّفس أكثر هو أنهم بعد الخلاف حول المسار الدستوري، وجدوا أنفسهم متخندقين مع العلمانيين، كما لم يحاولوا ولا مرّة أن يتحالفوا فيما بينهم ويتجاوزوا خلافاتهم التكتيكية... وانظر إلى الجبهة الإسلامية كيف تبرأت من الشيخ المناضل علي جدي لمجرّد خلاف تكتيكي.
ويعتقد أسامة بوضياف في حديثه لـ "عربي21"، أن الصراع حول الزعامة هو أكثر لدى الإسلاميين من غيرهم وهذا راجع لعدة أسباب وعلى رأسها الشرعية التي ينطلق منها كلُّ هيكل... فلو أخذنا نموذج الجزائر، لوجدنا أن "حمس" لن تتنازل عن الزعامة بحكم أنها أكبر حزب إسلامي مُهيكل ومنّظّم فترى نفسها الأحق بالزعامة. أما الجبهة الإسلامية: فترى نفسها الأحق بالريادة بحكم أنّها أكبر حزب عارض وناضل وظفر بشرعية الشعب وشرعية السجن وشرعية الثبات فلا يمكن أن تتنازل. أما الشيخ جاب الله مثلا فيرى نفسه أنَّه أول من هيكل تنظيم الإخوان في الجزائر فلا يمكن أن يتنازل عن الزعامة وقس على ذلك كل له شرعيته التي يزعم أنها تعطيه الحق في الزعامة.
ولا يعتقد أسامة بوضياف بإمكانية التخلي أو التخلص من هذه الظاهرة بانتهاء شخوصها ونخبها، إلا أنه يمكن تجاوزها بواسطة جبهة أو تكتل... على شكل التكتلات البرلمانية لكن وجب تفعيلها خارج البرلمان وفق تصور ورؤية استشرافية وإعداد قاعدة للطاقات الشبابية لتجاوز مشكل الزعامة بشكل خاص ومشاكل الحركة الإسلامية بشكل عام .
أخطاء الإسلاميين أقل من أخطاء خصومهم
إلا أن الدكتور بدران بن لحسن / أستاذ الفكر والحضارة الإسلامية، بجامعة قطر يذهب إلى أن غياب ثقافة التداول لا تخص التيارات أو الأحزاب أو التنظيمات الإسلامية فقط، وإنما هي عامة في مختلف المؤسسات الحزبية والمدنية والخيرية والحقوقية وغيرها من أشكال العمل العام، بسبب استمرار التضييق على الحريات في بلادنا وفي عالمنا العربي بخاصة، وفي غياب الحرية وحرية التنظيم والعمل العلني المحمي قانونيا، ولكثرة تدخلات السلط المختلفة، فإن المناصب القيادية صارت تدور في محور الشخص لا محور المؤسسة أو الفكرة إذا استعملنا تعبير مالك بن نبي في قياس عمر الشخص أو التنظيم او المؤسسة او المجتمع من الناحية الفكرية والنفسية.
ويشرح الدكتور بدران بن لحسن لـ "عربي21"، رؤيته واقتناعه بأن الظاهرة لا توجد عند الإسلاميين أكثر من غيرهم، وإنما يتم تسليط الضوء على الإسلاميين أكثر من غيرهم، وذلك لعدة أسباب:
أولها، أن التيار الإسلامي يحمل مشروع "الإسلام يقود الحياة" وهذا يفترض فيهم الارتقاء في آدائهم إلى مستوى قيم الإسلام السمحة في الشفافية والاحترافية واحترام قواعد العمل السياسي والحزبي.
ثانيها، إن التيار الإسلامي تضخم عثراته ويتعامل معه خصومه وأنصاره على أنه جهد كهنوتي يتجاوز البشرية وإكراهات الواقع وعدم الوقوع في الأخطاء، وهذا مفهوم علماني مستورد رسخته النخب العلمانية، لإقصاء أي جهد سياسي وفكري واجتماعي يتبنى الإسلام مرجعا ويحمله مشروعا مجتمعيا، ويعمل على تغيير الأوضاع به، فيرسخ خصومه في أذهان الناس تلك الطهارة المطلقة الموهومة في أعضائه، حتى يحصل لهم عائق نفسي من الخطأ ومن التجربة ومن التطور، فلا يتقدمون شيئا، وإلا فإن أخطاءهم أقل من أخطاء خصومهم بكثير.
ثالثها، أن التيار الإسلامي أدخل في متاهات الصراع السياسي والاجتماعي، دون أن يصحبه ذلك تأسيس ثقافة سياسية ونضالية تخضع للشفافية والتعديل والتطور كما أسلفنا بسبب غياب الحريات، وبسبب ضيق أفق بعض قياداته التي تضخم أناها على حساب المصلحة الجماعية والمؤسسية، وهذا مرض في التنظيمات العقائدية عموما.
شروط لا بد منها
ويشترط الدكتور بدران بن لحسن لانتهاء الظاهرة ما يلي :
أولا ـ بتوفر جو الحرية، وحماية القانون، وتطبيقه بموضوعية وليس انتقائية من قبل الأنظمة الحاكمة، بحيث يطبق القانون على الجميع.
ثانيا ـ اعتماد أطر واضحة للتداول على القيادة، وتحمل تبعات ذلك سلبا وإيجابا، وإفساح المجال للتجربة لتصحح نفسها، وتقليل دور الشخص الزعيم، من خلال تحمل المسؤولية مؤسسيا وجماعيا، وعدم ترك فرصة للزعاماتية لتطغى، وذلك بأن تحدد الأطر لتولي القيادة، وفترات لتجديدها وتغييرها، ونظم للرقابة والمحاسبة على حصيلة فترة القيادة موضوعيا، دون أن نغمط حقوق الأشخاص وسابقيتهم وبلائهم، ولكن دون تقديس.
ثالثا ـ التثقيف والتكوين العلمي المستمر والاستفادة من الخبرة التاريخية والخبرة الإنسانية في إدارة الشأن العام وفي كيفية إدارة المؤسسات والتنظيمات، في المجتمعات التي نجحت في تجاوز هذه العقدة (القيادة)، وإخضاع ذلك للعلم وليس للشعبوية.
إقرأ أيضا: إشكالية الزعامة عند الإسلاميين.. الجزائر نموذجا (1من2)